احذروا الخرائط المريضة

الدار البيضاء اليوم  -

احذروا الخرائط المريضة

غسان شربل
غسان شربل

مؤلمة قصة الخرائط المريضة إذا اختارت انتظار الطبيب من وراء البحار والعلاج من المختبرات البعيدة. رغبة المريض في الشفاء أساسية في أي علاج. وتقول التجارب إنَّ الدول لا تسقط من الخارج إلا إذا كان الداخل هشاً ومريضاً. تبلور الإرادة الوطنية الجامعة جوهري في هذا السياق. وربما لهذا السبب تحرص أي وصاية خارجية على تفتيت وحدة المواطنين واستحداث خطوط تماس ملتهبة بينهم. هكذا يتمُّ إيقاظ عصبيات قديمة تلتقي مع مخاوف مستجدة لتمزيق الناس وتوزيعهم على متاريس متقابلة. رأينا في منطقتنا المنكوبة تجارب صارخة ومفاجآت لم نتوقعها. رأينا الجيش العراقي يخترق الحدود الإيرانية في عهد صدام حسين. ثم رأينا بغداد تعجز عن تشكيل حكومة ما لم تحصل هذه على مباركة طهران. رأينا سوريا اللاعب الأول في لبنان تحرك الخيوط والدمى، ثم رأينا ميليشيات لبنانية تجتاز الحدود لتدافع عن النظام السوري. رأينا خرائط تفقد حصانتها وتتسلل رياح التفكك أو الإرهاب إلى داخلها. ورأينا دولاً تفقد استقرارها وتختبئ مذعورة تحت معطف قوي صادر صوتها وإرادتها.

يكثر الحديث عن الترياق المنتظر، ليس من العراق، بل من صفقة أميركية - إيرانية. أغلب الظن أنَّ الأمور أكثر تعقيداً مما يعتقد كثيرون. على مدى عقود بذلت إيران جهوداً هائلة وشنت هجمات متنوعة لقطع الخيط الأميركي الذي اعتقدت أنَّه يحرس استقرار واستمرار عدد من دول المنطقة. وفي السنوات القليلة الماضية شنَّت الإدارة الأميركية حرب عقوبات لتقطع الخيط الإيراني الذي التف على القرار في خرائط عدة لاجتذابها فوقعت في خانة الخرائط المريضة. رحلة إدارة بايدن مع ملفات الشرق الأوسط الرهيب لا تزال في بداياتها. من المهم جداً أنْ تجيدَ الإدارة الأميركية قراءة ما تغيَّر وما تكشف وألا تكون مجرد صدى لأفكار قديمة قادرة لا على معالجة الخرائط المريضة، بل على إنجاب المزيد منها.

للاستقرار ركائز معروفة في الشرق الأوسط وتأتي المملكة العربية السعودية في طليعة هذه الركائز. ويجدر بإدارة بايدن أن تتوقَّفَ عند حجم التغيير الذي شهدته السعودية والذي أدَّى إلى تجفيف منابع التطرف وفتح أبواب الأمل أمام أجيال شابة كان الفكر المتطرف يحاول سابقاً استدراجها إلى ملعب الإرهاب. إنَّ الاستناد إلى تقارير وتقويمات تعوزها الأدلة لإطلاق أحكام أو إشاعة مناخات من عدم الثقة مع الحلفاء يؤثر سلباً بالتأكيد على استقرار المنطقة، وقدرة الإدارة الحالية على الاضطلاع بدور بناء فيها.

سوريا المريضة ليست مفيدة لأحد. لا لأهلها ولا لجيرانها. لا للمنطقة ولا للعالم. وليست مفيدة بالتأكيد لوضع هذا الجزء الشائك من العالم الذي نسميه الشرق الأوسط على طريق الاستقرار والبحث عن الازدهار. أقصد بسوريا المريضة سوريا التي لا تزال تقطر دماً بفعل الحروب الطاحنة التي دارت على أراضيها. وأقصد تلك البلاد التي يرابط ملايين من أبنائها في مخيمات على مقربة من حدودها ولا يجرأون على العودة أو لا يُسمح لهم بذلك. البلاد التي لا تسيطر مؤسساتها الرسمية على كامل أراضيها وتعيش اليوم موزعة تحت أعلام كثيرة. البلاد التي يشترك حلفاء وأعداء في صنع قرارها بعدما كانت شهرتها تقوم على أن قرارها صناعة سورية خالصة. ولم يكن الأمر مجرد ادعاء، فحافظ الأسد لم يسمح لا لواشنطن ولا لموسكو بإملاء سياسات عليه. وتابع بشار الأسد السير على هذا الطريق قبل أن ينحسر دور سوريا بفعل انسحابها من لبنان وبدء تصدع مؤسساتها مع اندلاع «ربيعها» بكل مبرراته وملابساته وأهواله.
سوريا المريضة ليست مفيدة لأحد. ليست مفيدة بالتأكيد للبنان الذي تربطه بسوريا شرايين يستحيل قطعها، وهي شرايين تختلف بالتأكيد عن معابر التهريب غير الشرعية التي فشل «العهد القوي» في كبح شبكاتها وقبضاياتها ما كرسه أضعف العهود في دفتر الضعفاء. والحقيقة أنَّ سوريا المريضة العاجزة عن استرجاع استقرارها واستعادة أبنائها مشروع دائم لزعزعة الاستقرار اللبناني، وصبّ الزيت على النار المشتعلة لأسباب أخرى. ولا يحتاج الأمر إلى التذكير بالشرايين المفتوحة بين سوريا والعراق بفعل الجغرافيا والتاريخ معاً وهو ما أعاد التذكير به انتشار «دولة داعش» على أجزاء واسعة من أراضي البلدين.

وإذا كانت سوريا المريضة تحمل في داخلها خطر ولادة الإرهاب على أرضها أو تسلله إليها، فإنَّها تحمل أيضاً خطر أن تكون مسرحاً لحروب طاحنة أو شرارة لحرب تتعدى حدودها. والواقع هو أنَّ حرباً إسرائيلية تدور ضد الأهداف الإيرانية في سوريا، وقد اختارت طهران حتى الآن عدم الرد بما يمكن أن يؤدي إلى مواجهة واسعة لا تسمح روسيا بحصولها، وإن لم تعارض الضربات الإسرائيلية الموضعية ضد «التموضع الإيراني».

العراق المريض ليس مفيداً لا لأهله ولا لاستقرار المنطقة التي تتزايد فيها معدلات التفكك والفقر واليأس. ما نشاهده منذ وقت غير قصير غريب، ويكاد يتحول إلى قواعد مسلم بها. يشنُّ الطيران التركي غارات على أهداف كردية داخل العراق. يقيم الجيش التركي مراكز ثابتة داخل الأراضي العراقية. في المقابل تزداد إيران تشبثاً بإدارة بغداد من طهران أو عبر الفصائل التي «تعالج» العاصمة العراقية بالوصفات المستوردة من طهران. لا مبالغة في الأمر فمن يتابع المجريات يدرك بسهولة أنَّ العراق يخوض حالياً معركة قاسية لاستكمال بناء مؤسساته المعبرة عن قدرته على اتخاذ قراره السيادي دفاعاً عن استقراره ومصالحه. ويذكر وضع بغداد الحالي مع طهران بوضع بيروت مع دمشق في السنوات الخوالي، وتتشابه كثيراً لعبة الأدوات المحلية والواجهات المصطنعة والمغطاة بشعارات كبيرة يمارس أصحابها أصنافاً من الاستعلاء على مواطنيهم، فضلاً عن ترهيبهم. ويمكن قول الشيء نفسه عن لبنان. لبنان المريض ليس مفيداً لا لأهله ولا لجيرانه. الأمر نفسه بالنسبة إلى اليمن.

أخطر ما يمكن أن يحصل هو أن تتكرر تجارب الماضي. أن يحسم مصير دول في غياب ممثليها وهم الأدرى بتطلعات شعوبها ومصالحها الحقيقية. سيكون بالغ الخطورة أن يسلم لعواصم في الشرق الأوسط بحق إدارة عواصم أخرى مهما كانت الأعذار. قدرة الشعوب والمجموعات على مقاومة توجه من هذا النوع ستؤدي إلى توالد أشكال من المقاومة والعنف واليأس والتطرف والإرهاب. التسليم لموازين القوى الطارئة بحق الديمومة وتغيير توازنات تاريخية أمر بالغ الخطورة. على إدارة بايدن أن تتمهَّل في قراءة المنطقة وركائز الاستقرار والاعتدال فيها. ومن حق أي مراقب عاقل أن يقول: «احذروا الخرائط المريضة». العلاج الخاطئ يضاعف التهاباتها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

احذروا الخرائط المريضة احذروا الخرائط المريضة



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 16:07 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

طفل صغير يتفاعل مع فاجعة الصويرة في المغرب

GMT 01:32 2018 الإثنين ,12 شباط / فبراير

غاريدو سعيد بالفوز في أول ديربي له أمام الوداد

GMT 04:50 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

فندق فيلا هونيغ لقضاء شهر عسل مختلف ورائع

GMT 13:23 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

آرسنال يستغنى عن تشيك بعد أخطائه المتكررة

GMT 23:58 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

جمعية سلا في مجموعة قوية ببطولة دبي للسلة

GMT 05:49 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

منتخب "مصر" لكرة اليد يفوز على هولندا في "دورة لاتفيا"

GMT 15:09 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

بيريز يشيد بقرار مبابي برفض ريال مدريد

GMT 05:15 2017 الجمعة ,08 كانون الأول / ديسمبر

داليا كريم على وشك الحصول على لقب "سفيرة العطاء"

GMT 14:52 2017 الجمعة ,01 كانون الأول / ديسمبر

الرجاء تألق عالميًا قبل مجيء بودريقة

GMT 13:45 2016 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

أربع نصائح للحمل بولد

GMT 00:46 2016 الأحد ,23 تشرين الأول / أكتوبر

الاعلان عن حقيقة شخصية زوجة أب الأميرة ديانا "رين سبنسر"

GMT 11:39 2017 الأحد ,09 تموز / يوليو

رؤيتك للحياة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca