اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

الدار البيضاء اليوم  -

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى الطبيعة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

يوم الخميس الماضي، مع الذكرى السنويّة الثانية لتفجير مرفأ بيروت، كان يومَ الإقرار الشامل بأنّ اللبنانيّين قد طُردوا إلى الطبيعة، وأنّ عليهم أن يتدبّروا أمرهم هناك، لا في الدولة والقانون، ولا في الاجتماع.
حجم المظاهرات التي تضامنت مع الضحايا واستنكرت الكارثة عبّر عن ذلك بوضوح.
هذا لا يعني أنّ التضامن والاستنكار كانا قليلين، أو بسيطين. إنّه يعني أنّ الأمل بفرض تغييرٍ ما هو القليل. أنّ اليأس هو الذي بات ساطعاً.
ذاك أنّ الجماعة الحاكمة استكملت عمليّات طرد السكّان من السياسة إلى الطبيعة، أي إجلاءهم من حيث تُناقش القضايا العامّة وتُتّخذ القرارات ويكون رأي عامّ مؤثّر إلى حيث «القويّ بقوّته»، كما يقول التعبير الشائع.
وهذا يعني، بين أمور كثيرة أخرى، تكريس مأساة المرفأ بوصفها فعلاً لم يفعله أحد. لقد فعلته طبيعة عمياء، بحيث ينبغي وعيه بوصفه حدثاً طبيعيّاً، أي حدثاً غير سياسيّ. ولربّما أسهم التجاوُر الزمنيّ بين التفجير وجائحة كورونا في تثبيت هذا التصوّر الرهيب.
فالحدث الطبيعيّ لا يخلّف أثراً وراءه، ما خلا أثر إزالة الأثر، أو المحو. إنّه هو نفسه يتولّى، بكلّ حياديّة وبانعدام كلّ غرض أو غائيّة، اقتلاع ما كان قائماً. وكم هي بليغةٌ تلك الدلالة الرمزيّة لانهيار أربع صوامع من أهراءات المرفأ في يوم الذكرى الثانية ذاته. لقد أريد أن يقال: هذا أيضاً عمل حياديّ لا يقف وراءه أيّ غرض أو غائيّة.
والحدث الطبيعيّ لا تليه مساءلة ولا ينجم عنه عقاب. إنّه نتاج إرادة لا نتعقّلها ولا نملك السيطرة عليها: القضاء المحلّيّ ممثّلاً بالقاضي طارق البيطار مكفوف اليد، تتقاذفه التهم والدعاوى. القضاء الدوليّ ممنوع بدوره بحجّة وجود قضاء محلّيّ.
إلى ذلك، أغلب الظنّ أنّ اندلاع ثورة تشرين قبل التفجير، لا بعده، إنّما أسهم في تعزيز القناعة بأنّه «ليس في الإمكان أفضل ممّا كان». إنّ التفجير، بالتالي، حدث لا يمكن أن يظهر ردّ عليه لأنّه، مثل أفعال الطبيعة، لا يوجد مسؤول عنه. نترات الأمونيوم لم يستدعها أحد ولم يرسلها مُرسل إلينا، لكنّها حضرت من لا مكان ومن تلقائها واختارت أن تحلّ في ربوعنا. لقد أتت تماماً كما تأتينا، بين وقت وآخر، عواصف آتية من أمكنة بعيدة.
وبالفعل فإنّنا هنا نتحدّث كما لو كنّا نصف الطقس الذي لا يمكن التحكّم به، أو الزلزال والفيضان اللذين يحدثان شئنا ذلك أو أبينا.
لكنْ حتّى حين ينكشف بقدرة قادر بعض الحقيقة وتتّضح بعض المسؤوليّة، كما في قضيّة تفجير رفيق الحريري ورفاقه، تبقى العدالة مستبعَدة. ذاك أنّ العدالة الأصليّة كامنة في الفعل الطبيعيّ نفسه: إنّ حكمة ما نجهلها تقف وراء اغتيال الحريري أو تفجير المرفأ!
والطبيعة تعريفاً طاردة للعدالة بقدر ما إنّ العدالة طاردة للطبيعة. في الطبيعة، القوّة هي إيّاها الحقّ، والغابة طبيعة في آخر المطاف.
وفي دفعنا هذا إلى تلك الطبيعة يتمّ تفكيك ما تبقّى من عُرى ومعانٍ يزخر بها الاجتماع وتعبّر عنها السياسة: البلد يتعرّى اليوم من كلّ داخل يصنعه البشر وعلاقاتهم. السكّان يُفصلون عن أملاكهم المحجوزة في المصارف. الدولة تنفصل عن قضائها. التغيير ينفصل عن موضوعه. الأبناء ينفصلون عن تعليمهم... أمّا علاقة الجماعات فيما بينها فيختصرها بكاء إحداها على مأساة المرفأ وضحاياها، وانتشاء إحداها بما تصفه انتصاراتٍ على إسرائيل. الذاكرة ومحو الذاكرة؟ كليشيه بات بليداً ومضجراً، لأنّ كلّ واحد فينا يتذكّر في اتّجاه، واضعاً ذاكرته في مواجهة ذاكرة أخرى.
إنّ جريمة المرفأ أحد أكبر الأفعال الرهيبة لنظام ينتج الضحايا ثمّ يرفع الأسباب التي تسبّبت بسقوط الضحايا إلى مقدّس طبيعيّ. وهناك محطّتان كبريان في مسار هذه الثقافة التي تقتل السياسة بسلاح الطبيعة: الأولى اتّخذت شكل التمجيد للتركيبة الطائفيّة اللبنانيّة التي لم تُقدَّم كاضطرار أملتْه لحظة تاريخيّة ما وتُزيله لحظة أخرى، بل حُوّلت إلى علاج رومنطيقيّ وعبقريّ للمآسي التي تنجم عنها، وإلى رسالة ونموذج للعالمين. لكنْ ما إن انحسرت قليلاً تلك الصيغة حتّى ظهرت أخرى أكثر شرّاً وأقدر، بلا قياس، على توليد الشرّ: إنّها المقاومة التي يسهل في سبيلها الموت، ولا يجوز لأيّ مأساة أن تدفع إلى مساءلتها أو حتّى مراجعتها بوصفها أشدّ أفعال الطبيعة إلهيّةً وأقربها إلى الأقدار المحتّمة.
ماذا ينفع التظاهر، والحال هذه، ضدّ فعل طبيعيّ لم يفعله أحد، فيما يجد كثير ممّن يمتنعون عن التغنّي به لكنّهم يتغنّون بنتائجه، فيصوّتون للمرشّحين الذين ينبغي أن يُساءلوا عن التفجير، وللمقاومة التي تحمي نظام التفجير وترعاه؟
إلى الغابة در. هذا هو أمر اليوم في لبنان.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى الطبيعة اللبنانيّون وقد طُردوا إلى الطبيعة



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 10:21 2022 السبت ,06 آب / أغسطس

تايوان... مكسب حرب أم خسارة معركة؟

GMT 19:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يتيح أمامك هذا اليوم فرصاً مهنية جديدة

GMT 20:31 2018 الأحد ,30 كانون الأول / ديسمبر

كومباني يعلن جاهزية مانشستر سيتي لمواجهة ليفربول

GMT 11:14 2018 الجمعة ,16 شباط / فبراير

تزيني بمجموعة مميزة من المجوهرات في عيد الحب

GMT 16:31 2016 الأحد ,21 شباط / فبراير

برانت دورتى ينضم لفيلم "Fifty Shades Of Grey"

GMT 01:15 2017 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

مميّزات جديدة في هاتف "iPhone X" الجديد من أبل

GMT 11:16 2014 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة وفيتامينات لعلاج النهايات العصبية للجهاز العصبي

GMT 05:31 2016 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

علماء يتوصَلون لمعرفة مسارات طيور السنونو خلال رحلاتها

GMT 00:27 2017 الأحد ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مناقشة كتاب "أيام من حياتي" سيرة سعد الدين وهبة

GMT 23:31 2017 الأربعاء ,05 إبريل / نيسان

الريان يخرج حمد الله من "جحيم" الجيش القطري

GMT 05:04 2016 الخميس ,14 كانون الثاني / يناير

ضريح القديس يهوذا وحصنه الشاهق يزيّنان جانسي الهندية

GMT 22:13 2019 الثلاثاء ,05 شباط / فبراير

لمسات مثيرة لرقبة زوجك قبل العلاقة الحميمة

GMT 22:18 2018 الأحد ,30 كانون الأول / ديسمبر

بايرن ميونخ يلتقي فورتونا دوسلدورف 13 كانون الثاني

GMT 04:59 2018 الثلاثاء ,19 حزيران / يونيو

هيونداي تطرح "نيكسو" تصدر الماء النقي في العادم

GMT 07:21 2018 الجمعة ,27 إبريل / نيسان

"الديكورات الكلاسيكية" تميز منزل تايلور سويفت
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca