لبنان: حدّ أدنى سياسيّ وحدّ أقصى حياتيّ

الدار البيضاء اليوم  -

لبنان حدّ أدنى سياسيّ وحدّ أقصى حياتيّ

حازم صاغية
حازم صاغية

إذا جاز وصف الوضع اللبنانيّ على شكل صورة، فالصورة الأدقّ قد تكون التالية:

عائلة من أربعة أفراد أو خمسة تعيش في بيت واحد، لكنّ أحد أفرادها يملك مسدّساً يزيّته ويتلاعب به في أوقات «الاستقرار» والهدوء، وفي أوقات التوتّر يوجّهه إلى رؤوس الأفراد الآخرين بحيث يهدأون ويحلّ «الاستقرار» مجدّداً. في ظلّ سلطة الأمر الواقع هذه، ينهار كلّ شيء: الاقتصاد، الأمن، القضاء، الحياة السياسيّة، العلاقة بالعالم الخارجيّ... البيت نفسه تتصدّع أركانه ويغدو معرّضاً للانهيار، خصوصاً وقد استهدفه انفجار شبه نوويّ. مع هذا يبقى ممنوعاً على أفراد البيت الاستنجاد بالجيران بعدما استحال عليهم، مجتمعين ومنفردين، ومرّةً بعد مرّة، إنجاد أنفسهم. لكنْ ردّاً على مطلب الاستنجاد بالجيران، يرفع صاحب المسدّس حجّة أخرى: نحن وأنتم بألف خير فلماذا تتذمّرون. إنّنا نقاوم. ألا يكفينا هذا مجداً وكرامةً؟ وهو بالطبع يشتم الجيران ويحمّلهم مسؤوليّة البلاء الذي يضرب البيت وأهله.

هذه الحجّة يرفعها صاحبها إلى مصاف القداسة، متّهماً رافضيها بالخيانة والمروق. لكنّ باقي أفراد البيت لا يرون فيها سوى أنّها السبب الرئيس في جوعهم وقهرهم وفي تحكّمه بهم. إنّهم واثقون من أنّهم بدون تلك المقاومة يحرزون، فضلاً عن كلّ المكاسب الماديّة المحتملة، مجداً وكرامة أكثر حقيقيّةً وصلابةً. القداسة التي يسبغها صاحب المسدّس على مسدّسه تبدو لهم كذبة بائخة.

الصورة المرسومة أعلاه تقول إنّ أكثريّة كبرى من اللبنانيّين تعاني مأساة حياتيّة، أو وجوديّة، في حدّها الأقصى. ربع هذه المأساة كافٍ لإحداث تغيير سياسيّ كامل. مع هذا فاحتمال التغيير السياسيّ لا يتعدّى الحدّ الأدنى.
علامات هذا التباين كثيرة أهمّها: انهيار ثورة تشرين الذي قضى على أمل الردّ الوطنيّ العابر للطوائف، والعودة تدريجاً ومداورة، بسبب الانهيار المذكور، إلى ما يشبه ثنائيّة 8 و14 آذار. ولأنّ قوّة الطوائف ما يفسّر هذه التطوّرات، كان لا بدّ أن تتصدّى للمهمّة قوّة هي بالتعريف طائفيّة. إنّها الكنيسة المارونيّة التي، كعادتها في المنعطفات الكبرى، تتصدّى للمهمّات الصعبة.
هذا التحوّل، الذي فرضه الواقع نفسه، صوّب بعض المسائل، وإن أعلن إغلاق مسائل أخرى. فالحدث الذي شهدته بكركي، يوم السبت الماضي، قال إنّ بتّ أمر السلاح والنزاع الإقليميّ ونفوذ إيران خصوصاً هو المدخل الحتميّ الوحيد لمقاربة أيّ إصلاح آخر. هذا ما مُنعت ثورة تشرين من قوله. الحدث نفسه أعلن أيضاً أنّ مسيحيّي ميشال عون كانوا مخطئين حين غطّوا سياسات «حزب الله» وسلاحه وحربه في سوريّا، ممهّداً لتعرية عون من قاعدته المسيحيّة وتعرية «حزب الله» من غطائه المسيحيّ. وهو أعاد وضع لبنان على الخريطة بوصفه بلداً مهدّداً بالموت، بحاجة إلى تدخّل خارجيّ ينقذه.

في الظرف الحاليّ ليس هناك مَن هو أكثر تأهيلاً وأكثر استعداداً من الكنيسة المارونيّة للعب هذا الدور. الذين يرفضون ذلك انطلاقاً من رفضهم تدخّل رجال الدين في السياسة، يرفضون دور الكنيسة البولنديّة في قيادة البولنديّين إلى الحرّيّة، ودور الكنيسة الإيرلنديّة في قيادة الإيرلنديّين إلى الاستقلال... أسوأ منهم، كما أشار أكثر من مراقب، هم من يتذرّعون بالعلمانيّة للاحتجاج على دور بكركي فيما يسيرون وراء حزب دينيّ وطائفيّ في وقت واحد، هو «حزب الله».

لكنْ بسبب طبيعتها ككنيسة، فهذا ما يرسم خطّاً واضحاً: إنّ التغيير الجذريّ الذي حلم به بعض الشبّان والشابات ليس على الطاولة. صحيح أنّ أمر السلاح مدخل للمسائل الأخرى، لكنّه مدخل قد يتطلّب من الجهد والوقت والتضحيات ما لا يترك أيّة طاقة لسواه من المسائل. ضعف الاستجابة الدوليّة، الذي يتوقّعه كثيرون، سيعقّد الأمور كثيراً. سرعة الاستجابة الدوليّة ستفعل الشيء نفسه.
في هذه الغضون قد لا نسمع صوتاً واحداً وقويّاً تندمج فيه المآسي جميعاً، وآخرها مأساة طرابلس وإعدام لقمان سليم، أو يقترن فيه التوكيد على الوطنيّة اللبنانيّة ورفض العنصريّة حيال «السوريّ» و«الفلسطينيّ». هذه المطالب تبدو الآن كماليّة للأسف.

هذا الوضع يبقى قابلاً لعلاج جزئيّ، متقدّم في السياسة ومحافظ في الاجتماع، هو أن تبادر الطوائف والجماعات الأخرى إلى ملاقاة البطريرك الراعي في منتصف الطريق، وهو ما سبق أن حصل في 2000 – 2005 حين ضمّ وليد جنبلاط ثمّ رفيق الحريري صوتيهما إلى صوت البطريرك صفير. لكنّ علاجاً كهذا ربّما مهّد، رغم جزئيّته، لمواجهة قد يصعب تجنّبها تطال طبيعة البلد واستمراره نفسهما. أمّا أبناء العائلة التي يُصوَّب المسدّس إلى رؤوسهم فباتوا على أتمّ الاستعداد لأن يقولوا: لِمَ لا؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان حدّ أدنى سياسيّ وحدّ أقصى حياتيّ لبنان حدّ أدنى سياسيّ وحدّ أقصى حياتيّ



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 17:57 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك

GMT 04:19 2017 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

بناء منزل مقوس يشبه ثعابين الريف الإنجليزي على يد زوجان

GMT 14:05 2021 الجمعة ,10 كانون الأول / ديسمبر

محمد الريفي يكشف تفاصيل معاناته بعد انتشار فيديو له

GMT 06:08 2018 الخميس ,01 آذار/ مارس

إبراهيم نصر طاقة فنية كبيرة لم تستغل بعد

GMT 06:31 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

تعرفي على طرق مبتكرة لوضع المناكير الأحمر

GMT 08:31 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

فساتين زفاف مبتكرة في عام 2018 لإطلالات جريئة للعروس

GMT 03:46 2018 الأربعاء ,10 كانون الثاني / يناير

وقف احتساب علامات دورة الحاسب الآلي في مدارس بريطانيا

GMT 18:55 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

التليفزيون المصري يعرض مسلسل "وكسبنا القضية" المميّز

GMT 13:22 2017 الخميس ,14 كانون الأول / ديسمبر

10أعوام سجنًا في حق صحافي بتهمة هتك عرض قاصر

GMT 03:53 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

موظف في "أرامكو" لم ينم لمدة ليلتين متواصلتين بسبب "فيلم"

GMT 07:49 2017 الجمعة ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد المغربي يعاقب عبد الرحيم طاليب و خوان غاريدو

GMT 12:17 2015 الثلاثاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

فوائد السمسم وزيته كمقوي للمبايض
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca