المدرسة في أزمة

الدار البيضاء اليوم  -

المدرسة في أزمة

آمال موسى
آمال موسى

لا يختلف اثنان في قيمة التعليم ودوره الحيوي في بناء الإنسان وفي تحصين مستقبل الأوطان من خلال تهيئة الأجيال للذود عنه بالمعرفة والعلم. وعادة ما يرتبط الحديث الرسمي حول التحصيل الدراسي بقياس نسبة التمدرس والأمية في العالم، ومعاينة هذه النسب في ضوء المتغيرات الاجتماعية مثل متغير الجنس مثلاً، وأيضاً علاقة معدل التمدرس بالمستوى الاقتصادي، وعلاقة تلك النسب في تحديد تخلف الدولة من تقدمها.

ولكن يبدو لنا أن هناك مسألة لا نوليها الأهمية والتركيز رغم كونها أصبحت ظاهرة في كل البلدان وفي مختلف المدارس، سواء المدرسة في بلد عربي أو أنموذج المدرسة الفرنسية أو الأميركية. هذه المسألة التي نقصدها هي أن المدرسة اليوم تعاني من أزمة تواصل مع التلميذ ونفور هذا الأخير منها، بل إنّ علاقته بها تقوم على الجبر والحتمية.
طبعاً لا شك في وجود بعض التجارب في عالم المدرسة ناجحة، ولكن الغالب هو وقوع غالبية نماذج المدارس في أزمة حقيقية بدأت تنكشف مظاهرها في توتر العلاقة بين التلميذ والمدرسة، مما أثر على جاذبية هذه المؤسسة الاجتماعية الأولية وعلى وظيفتها الأولى المتمثلة في إيقاع التلاميذ في شغف المعرفة.

إن تلويح بعض الدراسات في علم الاجتماع التربوي عن «أزمة» المؤسسة التربوية، لا يعني أن هذه المؤسسة فقدت دورها في عملية التنشئة والتطبيع الاجتماعيين. فهي تبقى أحد الأمكنة الممتازة لما يسميه ماكس فيبر «قيم التوجيه» وأيضاً ما يطلق عليه بيار بورديو «بناء العقول»، من خلال نظام معرفي قيمي، يهدف إلى تشكيل رأس المال الثقافي للأفراد وأنماط سلوكهم.
يجب ألا ننسى أن المدرسة تهيمن على مرحلتي الطفولة والشباب، ولكنّها ظلت جامدة في تمثلها للتلميذ، ولم تأخذ في عين الاعتبار التغييرات التي عرفتها المجتمعات، وترفض الاعتراف بأن طفل الأمس وشاب الأمس يختلفان كثيراً عن طفل اليوم وشاب اليوم. نفس الامتثالية غير معنية بما قطعته الفردانية من خطوات، مقارنة بالمجتمع التقليدي والمجتمع الذي هبت عليه ريح الحداثة قليلة كانت هذه الريح أو عاتية. لذلك فإن تعالي المدرسة اليوم على هذه التغييرات أدى إلى توتر حقيقي، لكونها لا تعترف بمراهقة التلميذ، ولا تحاول استيعابه والتكيف مع خصوصية هذه المرحلة الصعبة على نفسية المراهق، فهي لا تساعده بقدر ما تدخل معه في مواجهات تنتهي أحياناً إلى القطيعة، وهو ما تعبر عنه نسب الانقطاع المبكر عن الدراسة، الذي لا يعود فقط إلى أسباب مادية، بل إلى أزمة تواصل، خصوصاً أن هذه الظاهرة مستفحلة في التعليم العمومي المجاني. بل إنّ ظاهرة العنف في المدارس بين التلاميذ والأساتذة، هي من أبرز مظاهر أزمة تواصل مدرسة اليوم مع التلاميذ المراهقين، إذ إن المدرسة لا تعترف إلا بالتلميذ الامتثالي والمنضبط في سلوكه، وتمثلاتها للتلميذ ظلت جامدة وصارمة وتقوم على تصور للعلاقة بين الأستاذ والتلميذ تقوم على الهيمنة، وتفتقد إلى المرونة والتفاعل مع الواقع وتغييراته. فالمدرسة في زمنية المجتمع التقليدي، حيث مؤسسات التنشئة الاجتماعية هي المهيمنة على الفرد، من غير الممكن أن تظل بنفس التمثلات، وهي في زمنية مجتمع الفاعل الاجتماعي والفردانية وحقوق الطفل ومزاحمة وسائل التواصل الاجتماعي.

علينا الاعتراف أن تلميذ اليوم لا يشبهنا عندما كنا نحن تلاميذ. فردانيته أعلى منا بكثير، وهي التي تحدد له علاقته بذاته وبالآخرين والمؤسسات. تلميذ اليوم يرفض أن تكون المدرسة هي كل حياته. والمدرسة بجدول أوقات التدريس المكتظ والواجبات المدرسية والامتحانات المتتالية لا تعير لفكرة أن المدرسة ليست كل شيء لطفل وشاب اليوم.
صحيح أن هذه الأزمة تشمل تقريباً كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، حيث أزمة الأسرة وأزمة مؤسسة الزواج... لكن الفرق هو أن مؤسسة المدرسة بحكم أنها مؤسسة المعرفة وتدار من فاعلين معرفيين، فإن ذلك يدعوها أكثر من غيرها من المؤسسات إلى التدبر في أمر أزمتها والمواكبة والمسايرة لتحسن التواصل مع التلميذ. فأي فائدة من التمسك بنفس الأسس التربوية والحاصل أن التحصيل الدراسي في تراجع وبناء العقول أيضاً في تراجع مخيف؟
من المهم أن تفهم مدرسة اليوم في هذا الزمن أن دورها ليس معلوماتياً، بل في بناء العقل وتشكيله على نحو إنساني منفتح يحقق التعايش الإنساني ويضبط علاقة الفرد بغيره على نحو قيمي متسامح ويحتكم إلى القبول واحترام مسافات الاختلاف.
التجربة المدرسية يبدو أنها تفتقر إلى الأبعاد الثلاثة للتجربة التربوية كما حددها فرنسوا ديبي (François Dubet) والمتمثلة في الدخول من خلال الخيال إلى عالم الكبار والمعنى الذاتي الذي يعطيه الفاعل الاجتماعي لتكوينه ولرموز التنشئة المدرسية. أما البعد الثالث للتجربة المدرسية فهو الاستراتيجية، ويقصد بها أنه لا يكفي أن يكون المراهق حاملاً لمشروع أو أنه بصدد تعلم أشياء مفيدة، بل إنه كي تكتسب التجربة المدرسية معنى، لا بد من أن يعرف كيف يحقق أفضل استثمار مدرسي مع أداء «مهنة التلميذ» بشكل مفيد.
يجب أن نفكر في جعل المدرسة بيئة استثمار معرفي وجمالي وذهني للتلميذ، وإلا ستفقد المدرسة وظيفتها مع الوقت. فلا مكان في المستقبل لمؤسسة تقوم في روابطها على العلاقة العمودية وثقافة المؤسسة السلطة التي تفرض الامتثال الآلي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المدرسة في أزمة المدرسة في أزمة



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 17:57 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك

GMT 04:19 2017 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

بناء منزل مقوس يشبه ثعابين الريف الإنجليزي على يد زوجان

GMT 14:05 2021 الجمعة ,10 كانون الأول / ديسمبر

محمد الريفي يكشف تفاصيل معاناته بعد انتشار فيديو له

GMT 06:08 2018 الخميس ,01 آذار/ مارس

إبراهيم نصر طاقة فنية كبيرة لم تستغل بعد

GMT 06:31 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

تعرفي على طرق مبتكرة لوضع المناكير الأحمر

GMT 08:31 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

فساتين زفاف مبتكرة في عام 2018 لإطلالات جريئة للعروس

GMT 03:46 2018 الأربعاء ,10 كانون الثاني / يناير

وقف احتساب علامات دورة الحاسب الآلي في مدارس بريطانيا

GMT 18:55 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

التليفزيون المصري يعرض مسلسل "وكسبنا القضية" المميّز

GMT 13:22 2017 الخميس ,14 كانون الأول / ديسمبر

10أعوام سجنًا في حق صحافي بتهمة هتك عرض قاصر

GMT 03:53 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

موظف في "أرامكو" لم ينم لمدة ليلتين متواصلتين بسبب "فيلم"

GMT 07:49 2017 الجمعة ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد المغربي يعاقب عبد الرحيم طاليب و خوان غاريدو

GMT 12:17 2015 الثلاثاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

فوائد السمسم وزيته كمقوي للمبايض
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca