الحقائق المهمشة في خطابنا حول الشعبوية

الدار البيضاء اليوم  -

الحقائق المهمشة في خطابنا حول الشعبوية

د. آمال موسى
د. آمال موسى

ما فتئ تواتر استعمال كلمة «الشعبوية» يزدادُ كثافة في العقد الأخير في الفضاء العربي السياسي، مما يوحي بأننا سنعرف سنوات من هيمنة هذه الكلمة في خطابنا السياسي والإعلامي وحتى الاجتماعي العام.المشكل أن الغالب على استعمال هذا المفهوم عدم الدقة وأحياناً التحريف الواضح الصريح. بل إن المتمعن في سياقات توصيف الظواهر والأشخاص بالشعبوية يجد أنه سياق حافل بالمعاني السلبية ولا يخلو من استعلاء وحكم صريح بالإدانة. كما أن المشكل ليس في السياقات المشار إليها بقدر ما في طبيعة الفهم ومدى صحة التوظيف ودقته. ومما يلفت الانتباه أن هناك نزوعاً واضحاً ومقصوداً كي يظل مفهوم الشعبوية غامضاً ومسجوناً في فهم غير دقيق يغلب عليه توظيف سياقات موسومة بالسلبية والتحقير والاستخفاف. لذلك فإن الحقائق غير المدرجة في خطابنا حول الشعبوية نعتقد أنها قادرة على إحداث فارق في الفهم.

طبعاً من المهم الإشارة إلى الاستعمال العشوائي لمفهوم «الشعبوية»، إضافةً إلى كونها يُنظر إليها من طرف منتقدي الحركات الشعبوية والقادة الشعبويين بوصفها مصدر تهديد للديمقراطية وللتعددية.

من هذا المنطلق يبدو لنا أن التوقف ولو سريعاً عند بعض الأفكار والحقائق التي تخص ظاهرة الشعبوية مسألة لا بد منها. ولعل أول نقطة من شأنها أن تخلصنا من ضجيج كثير، تتمثل في كون الشعبوية، خطاباً وحركةً وقادةً، تظهر لتعلن تأزم عميق للديمقراطية التمثيلية، فهي عنوان أزمة ودليل عطب كبير داخل المجتمع وظهور مجتمع طبقي تفصل بين طبقاته مسافات طويلة من شروط العيش الكريم. بمعنى آخر فإن النخب بسبب فشلها في إشباع توقعات فئات واسعة من الشعب فإنها تُعبِّد الطريق السيارة للشعبوية وهي المنتجة لها، مما يعني ببساطة شديدة أن ظهور الشعبوية لا يتم إلا في ظروف أزمة ما لأنها تعبير صريح عن سخط شعبي ما.
النقطة الثانية هي أن ما أسهم في تعزيز الاستعمال العشوائي لمفهوم الشعبوية هو أنها ليست آيديولوجيا والجماعات الشعبوية ليست متجانسة. وما يجمع بين الشعبويين هو ما يسميه الباحثون في هذه الظاهرة العاطفة المشتركة، وينصّ مضمون هذه العاطفة على أنهم جزء من الشعب تم هضم حقه. أما القائد الشعبوي فهو القريب من هذه الجماعات صاحبة العاطفة المشتركة والمتفاعل مع احتجاجها والمدافع عنها والذي يجعل من حقها المهضوم قضيته السياسية ومضمون مشروعيته السياسية.ويبيّن المفكر الهندي بارثا تشاترجي صاحب كتاب «أنا الشعب»، كيف أن الشعب المقصود والمعنيّ به القائد الشعبوي هو ذلك «القادر على ربط الكثير من المجموعات المختلفة المحتقنة الساخطة التي تعاني من مظاهر مختلفة في تشكيل واحد يسمى (الشعب)». بل إن هذا المفكر يذهب إلى اعتبار أن الشعبوية هي مجال للصراع بين الشعب والنخب السياسية التي فشلت في تلبية حاجياته وتأمين العدالة الاجتماعية للجميع بشكل أنتج فئات غير متجانسة في الفكر والخلفيات تجتمع ضمن عاطفة مشتركة تقوم على الشعور بالحرمان وتحتجّ ضد الجماعات التي تحتكر الثروة والامتيازات والسلطة.

ثالثاً، وإن كانت الحركات الشعبوية دليل فشل الديمقراطية النيابية التمثيلية وفشل النخبة التي تعهدت بتمثيل الشعب، فإن هناك معطى آخر يرد على الموقف القائل بتهديد الشعبوية للديمقراطية، وهو أن مفهوم سيادة الشعب وحكم الشعب هو أساس الديمقراطية وما ترك الديمقراطية المباشرة إلا لصعوبة تجسيدها عملياً فكانت الديمقراطية التمثيلية حلاً تماماً كما يلجأ الباحثون في العلوم الاجتماعية إلى العينة التمثيلية لإجراء البحوث لأنه من الصعب القيام ببحوث تشمل المجتمع الأصلي بجميع مفرداته ووحداته.
أيضاً نقطة أخرى مهمة وهي أن الشعبوية ظلت كظاهرة خارج التصنيف والتوصيف وليس لكونها لا تمتّ للآيديولوجيا بِصلة فحسب، بل أيضاً لأن لكل حركة شعبوية سياقها وخصوصيتها، الأمر الذي يجعل من الصعوبة ضبط محددات واضحة لها. لذلك فإن كل حركة شعبوية لا تشبه الأخرى، وهي تحمل خصائص الجزء من الشعب الذي انبثقت منه. وبناءً عليه يمكن الاستنتاج أن الشعبوية شعبويات ومن الخطأ التفكير بكونها حركات ذات طابع عنصري لكونها ارتبطت في نشأتها في فرنسا وإيطاليا وغيرهما بأحزاب كانت ضد وجود جماعات مسلمة أو ضد المهاجرين بشكل عام مثلاً كما حال حزب الجبهة الوطنية الفرنسية المعادي للمهاجرين. فمثل هذا الربط يخلق حيرة مضاعفة أمام حركات شعبوية خالية من المضمون العنصري وغير يمينية في توجهاتها.

بالنظر إلى مجموع هذه الحقائق حول الشعبوية نعتقد أن التعامل مع هذه الظاهرة لا يكون بخطاب الاستخفاف وبأن التاريخ لا تحركه العواطف المشتركة، وهي من الأفكار التي تستدعي المراجعة حيث التاريخ لا يتحرك فقط وفق حتميات تاريخية، بل هناك ما تسمى المفاجآت وغير المتوقع والتدفق الحر لتجارب الشعوب. كما أن عدم اكتراث النظريات السياسية الليبيرالية بنفسية الحشود قد تَبيّن أنه ثغرة كبيرة.

ولا نستطيع في هذا السياق أن نَغفل عن كتاب تعرّض لانتقادات من علماء النفس الاجتماعي وهو «نفسية الحشود»، حيث عالج صاحبه الفرنسي غوستاف لوبون العلاقة بين الجماعة والفرد، مبرزاً من خلال التركيز على مفهوم نفسية الحشود أو نفسية الجماعة أنه مهما يكن الأفراد الذين يتكوّن منهم الحشد، سواء أكانوا متشابهين أو غير متشابهين في أسلوب حياتهم أو في مهنهم أو في أخلاقهم أو في ذكائهم، فإن تحولهم في حقيقة الأمر إلى «حشد» يضعهم تحت سيطرة نوع من العقل الجمعي، يجعلهم يشعرون ويفكرون ويتصرفون بطريقة تختلف عن تلك التي يشعر أو يفكر أو يتصرف بها كل فرد منهم إذا وُجد منفرداً. يرى غوستاف لوبون أن الميزة الأساسية للحشد هي انصهار أفراده في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى المَلَكَات العقلية. ويشبّه لوبون علاقة الفرد بالحشد بالمركب الكيماوي الناتج عن صهر ودمج عدة عناصر مختلفة حيث تذوب وتفقد خصائصها الأولى.
فالواضح أن ظاهرة الشعبوية ليست طارئة، ومارست في تاريخ الشعوب حركات من المد والجزر والظهور والخفوت. كما أن عودتها اليوم نعتقد أنها بمثابة الإعلان عن فشل طروحات سياسوية عدة وتأزم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ونزوع المحكوم إلى إعادة ترتيب الواقع العام.ولعل المفتاح لمواجهة الشعبوية السياسية هو التوزيع العادل. فظهور الشعبوية ملازم لمؤشرات الأزمة والعطب وهي نتاج أزمة وليست مصدراً لها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحقائق المهمشة في خطابنا حول الشعبوية الحقائق المهمشة في خطابنا حول الشعبوية



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 17:57 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك

GMT 04:19 2017 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

بناء منزل مقوس يشبه ثعابين الريف الإنجليزي على يد زوجان

GMT 14:05 2021 الجمعة ,10 كانون الأول / ديسمبر

محمد الريفي يكشف تفاصيل معاناته بعد انتشار فيديو له

GMT 06:08 2018 الخميس ,01 آذار/ مارس

إبراهيم نصر طاقة فنية كبيرة لم تستغل بعد

GMT 06:31 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

تعرفي على طرق مبتكرة لوضع المناكير الأحمر

GMT 08:31 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

فساتين زفاف مبتكرة في عام 2018 لإطلالات جريئة للعروس

GMT 03:46 2018 الأربعاء ,10 كانون الثاني / يناير

وقف احتساب علامات دورة الحاسب الآلي في مدارس بريطانيا

GMT 18:55 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

التليفزيون المصري يعرض مسلسل "وكسبنا القضية" المميّز

GMT 13:22 2017 الخميس ,14 كانون الأول / ديسمبر

10أعوام سجنًا في حق صحافي بتهمة هتك عرض قاصر

GMT 03:53 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

موظف في "أرامكو" لم ينم لمدة ليلتين متواصلتين بسبب "فيلم"

GMT 07:49 2017 الجمعة ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد المغربي يعاقب عبد الرحيم طاليب و خوان غاريدو

GMT 12:17 2015 الثلاثاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

فوائد السمسم وزيته كمقوي للمبايض
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca