المثقف وتغيّر الوظيفة

الدار البيضاء اليوم  -

المثقف وتغيّر الوظيفة

آمال موسى
آمال موسى

يمكن القول افتراضاً أو واقعاً إنَّ المثقف اليوم في كل العالم يعرف لحظة ارتباك على مستوى تحديد وظيفته بشكلٍ واضحٍ يكشف عن هضمٍ يسيرٍ لدوره في المجتمع وفي هذه اللحظة التاريخية تحديداً. ولا تفوتنا الإشارة إلى أنَّ تاريخ وظيفة المثقف ليس خطّياً، حيث إنَّ مضمون هذه الوظيفة شكّل موضوعاً للتفكير حتى وإن كانت المحطات الكبرى لهذا التفكير ارتبطت بهبوب رياح الحداثة على المجتمعات التي عمَّقت من وظيفية المثقف في مجتمع ينتقل من مرحلة التقليدي إلى الحداثي، وما يعنيه ذلك من عمليات جراحية سوسيولوجية، ومخاضات وإجهاضات متتالية وولادات قيصرية ثقافياً وقيمياً.

ففي المجتمعات التقليدية كان العلماء ورجال الدين هم مَن يمثل النخبة، وتتميز وظيفتهم بالسكون تماماً كسكون المجتمع التقليدي المعروف بهيمنة المؤسسات الاجتماعية على الفرد وامتثال الفرد للمؤسسات.ولكن خلال القرن الأخير توازى الحراك الإنساني في مختلف الحقول الاجتماعية بمراجعات عدة لوظيفة المثقف، لعل أشهرها تصور الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي حول المثقف العضوي، وهو تصور يربط بين الطبقة والمثقف، ويرى أن تحقيق الطبقة الاجتماعية لمطالبها وطموحاتها مشروط بوجود مثقف عضوي يعبّر عن هذه الطبقة ويمتلك قدرة الهيمنة الثقافية، بل إنَّ قدرة أي طبقة وآفاق هيمنتها على المجتمع تظهر في التمكن من تكوين مثقفين عضويين مرتبطين بها على نحو يشبه علاقة الإدغام.

وكما نلحظ فإنَّ تصور غرامشي المهم يركّز على العلاقة العضوية بين الطبقة الاجتماعية والمثقف. وهو تصور في حاجة إلى فك الارتباط العضوي بالطبقة لتشمل المجتمع بمختلف طبقاته.
أيضاً التوقف عند طبيعة وظيفة المُثقف من المهم أن يقترن بطيّ صفحة الانحرافات التي عرفتها هذه الوظيفة عبر التاريخ وبخاصة في المحطات المفصلية. ولا نقصد فقط ما أفسده الارتباط بين السياسي والمثقف الذي يكون على حساب المثقف وذلك تقريباً في كل التجارب في العالم. ذلك أن حتى الارتباط بالديني وأحياناً بالاقتصادي، يؤثر سلباً على وظيفة المثقف التي تمتاز بالنقدية المرتبطة بدورها بالحرية والتحرر من أي تبعية ومن أي مصلحة. وبناءً عليه فإنَّ تقدم المجتمعات وجعل قطار التنمية الشاملة فيها سريعاً وواثقاً إنَّما هما في علاقة عضوية بفكرة ألا يكون في علاقة تبعية لأي شيء يمكن أن يضرب بعمق المضمون الذي وضعه الفكر الحداثي لوظيفة المثقف والمتمثل في تعزيز كرامة الإنسان.

طبعاً تمثلاث وظيفة المثقف ليست جامدة بل إنَّها في تغيير وتفاعلية مع تجارب النخب والشعوب، فلا أحد يستطيع أن ينكر أنَّ النخبة المثقفة التي دافعت عن التحديث في البلدان العربية وأيضاً المثقفين الذين انتصروا للقومية العربية وساندوا قيادات سياسية، إنما هم كانوا تابعين بالمعنى السلبي، إذ يحصل أن تتقاطع التوجهات والمشاريع والرؤى. وكما نرى فإنَّ هذه كل الأطروحات التي تبنّت تصوراً بعينه لوظيفة المثقف، قابلة للنقاش.

ربما ما يلفت الانتباه ويستحق التفكير فيه بعمق هو أنَّ بعض المثقفين أصبحوا يتبنون منهج النخب السياسية وقيم السياسة التي على رأسها البراغماتية والانشغال بما هو كائن والإذعان له، أي إنَّنا أمام ظاهرة تطبيع مع طريقة تفكير الفاعل السياسي. وهذا خلل خطير لأنَّ الوظيفتين مختلفتان تماماً: فالسياسي مشغول بتدبر أمور الواقع وما هو كائن، في حين أنَّ شغل المثقف ما يجب أن يكون والحلم الإنساني.

إنَّ هذا الانحراف الخطير جداً في كيفية تمثل المثقف نفسه لوظيفته أدَّى إلى ظهور «مثقفين» يمتلكون مهارة التلاعب لغوياً، وهو ما ينطبق عليهم ما سماه باسكال بونيفاس، المفكر السياسي المعروف ومدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، «مثقفي التزييف»، وهم مثقفون أسهمت وسائل الإعلام السمعية البصرية في ظهورهم وشهرتهم، لأنَّهم يخدمون أجنداتها حتى من دون أن تطلب منهم ذلك.

من جهة أخرى روَّج البعض مؤخراً لمفهوم جديد هو «المثقف العمومي»، وهو تصور يتغذَّى من أطروحات يورغان هابرماس حول الفضاء العمومي والعقلانية التواصلية، أي ضرورة إخضاع العلاقات والنّقاشات ضمن الفضاء العمومي للعقلنة. المشكل بالنسبة إلى هذا الطرح أنَّنا لم نبلغ في الفضاء العربي الإسلامي شروط تأمين تواصلية عقلانية في المجال العمومي. ربما العنصر الإيجابي في صياغة هذا التصور للمثقف العمومي هو إعادة ربط الصلة بين وظيفة المثقف والفكر الحداثي، إذ لا معنى للفضاء العمومي طبقاً لمفهوم هابرماس خارج الحداثة والعقلانية، باعتبار أنَّ العقل يحتل مكانة مركزية في المنظومة القيمية الحداثية، ومن هذا التموقع للعقل تمت صياغة روابط عضوية بين العقل والحرية (شرط إبداع العقل) والنقد بوصفه القلب النابض للعقل.

أغلب الظن أنًّ أحسن وظيفة للمثقف اليوم في زمن العولمة وحقوق الإنسان والدعوة إلى الأنسنة، رغم كل المزالق والعراقيل، هي وظيفة حفظ كرامة الإنسان في المجتمع. فهل توجد وظيفة أسمى من أن يكون مشروع المثقف العربي مثلاً حفظ ماء وجه وإنسانية وكرامة الإنسان العربي وحمايته من تداعيات التوترات والفقر والفتن العرقية والطائفية؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المثقف وتغيّر الوظيفة المثقف وتغيّر الوظيفة



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 19:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يتيح أمامك هذا اليوم فرصاً مهنية جديدة

GMT 20:31 2018 الأحد ,30 كانون الأول / ديسمبر

كومباني يعلن جاهزية مانشستر سيتي لمواجهة ليفربول

GMT 11:14 2018 الجمعة ,16 شباط / فبراير

تزيني بمجموعة مميزة من المجوهرات في عيد الحب

GMT 16:31 2016 الأحد ,21 شباط / فبراير

برانت دورتى ينضم لفيلم "Fifty Shades Of Grey"

GMT 01:15 2017 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

مميّزات جديدة في هاتف "iPhone X" الجديد من أبل

GMT 11:16 2014 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة وفيتامينات لعلاج النهايات العصبية للجهاز العصبي

GMT 05:31 2016 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

علماء يتوصَلون لمعرفة مسارات طيور السنونو خلال رحلاتها

GMT 00:27 2017 الأحد ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مناقشة كتاب "أيام من حياتي" سيرة سعد الدين وهبة

GMT 23:31 2017 الأربعاء ,05 إبريل / نيسان

الريان يخرج حمد الله من "جحيم" الجيش القطري

GMT 05:04 2016 الخميس ,14 كانون الثاني / يناير

ضريح القديس يهوذا وحصنه الشاهق يزيّنان جانسي الهندية

GMT 22:13 2019 الثلاثاء ,05 شباط / فبراير

لمسات مثيرة لرقبة زوجك قبل العلاقة الحميمة

GMT 22:18 2018 الأحد ,30 كانون الأول / ديسمبر

بايرن ميونخ يلتقي فورتونا دوسلدورف 13 كانون الثاني
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca