بقلم : عريب الرنتاوي
ثمانية وأربعون ساعة، كانت كافية للتخلص من أكثر من 50 ألف ضابط وجندي وقاض واستاذ مدرسة وعميد كلية وموظف رفيع، بحجة «التآمر» على النظام، والمشاركة في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي نفذتها مجموعة من العسكريين، قيل رسمياً، أنها أقلية قليلة ... المؤكد أن الأشهر الثلاثة القادمة، تحت ظلال «الطوارئ»، ستكون كافية من دون تمديد، لتصفية آخر ذيول «الجمهورية الكمالية»، والتأسيس لـ «جمهورية أردوغانية»، ستنقل تركيا من فضاء إلى آخر، داخلياً وربما خارجياً.
فشل انقلاب الضباط فشلاً ذريعا، وانتصر الشعب التركي لديمقراطيته «الفاعلة»، وتوحد الأتراك، سلطة ومعارضة، إسلاميون وعلمانيون، في وجه «حكم العسكر»، وكل هذا يندرج في عداد «الأخبار السارة» ... بيد أننا نشهد، ومنذ هدأت مدافع الانقلابيين، على انقلاب ثانٍ، يقوده الرئيس وبعض أركان حزبه ونظامه، بصورة منهجية ومنظمة، تسعى في تصفية الخصوم وتجفيف منابعهم ... والخصوم هنا، لا يمكن اختزالهم بحال من الأحوال بما يسمى «الكيان الموازي»، فكثير من المواقع والمؤسسات، كانت عصية على نفوذ فتح الله غولن، وكانت معقلاً للعلمانيين ... الآن، وبسيف الطوارئ، سيجري تصفية أي ملمح علماني للدولة التركية، وسينجح رجب طيب أردوغان، في تثبيت دعائم حكمه وسلطته المتفردة، حتى إشعار آخر، وبأقل قدر من المقاومة، تحت ضغط الخوف وسيف الابتزاز.
الجميع يتحسس رأسه الآن، إذ حتى الذين يدركون أتم الإدراك أنهم سيستيقظون على تركيا جديدة بعد ثلاثة أشهر، يكتفون بابتلاع تحفظاتهم واعتراضاتهم ... الوقت ليس مناسباً للمجازفة ... فثمة فلتان غير مسبوق للأجهزة الأمنية و»الشرطة السرية» ذات التاريخ السيىء... وألوف الرجال بلباسهم المدني المجلل بيافطة صغيرة كتب عليها «أمن»، يجوبون الشوارع والميادين، ويقتحمون القواعد والمعسكرات والدوائر الحكومية والبرلمان والجامعات، في أوسع عملية مطاردة لكل للخصوم والمعارضين.
ولقد تكشف وقائع المحاولة الانقلابية، عن وجود «كيان موازٍ» آخر، غير ذاك المتهم بتدبير المحاولة من مركزه في بنسلفانيا الأمريكية ... كيان أنشأه الحزب الحاكم، يتوزع بين أجهزة أمنية تم تشكيلها أو إعادة تشكيلها من على قاعدة «الدروس المستفادة» من تجربة «الانقلاب المصري على حكم الإخوان»، أو من خلال شركات أمنية محسوبة على شخصيات نافذة في الحزب الحاكم، أو حتى تشكيلات شبه عسكرية، تتبع مباشرة للحزب الحاكم.
ولقد رأينا حالات متكررة، من الاستهداف المتعمد والمنظم لهيبة الجيش وكرامته، رأينا مدنيين يدوسون بأقدامهم رؤوس جنود منبطحين على الأرض، وآخرين يتلقون الجلدات بأحزمة الأنصار المتحمسين للحزب والزعيم ... وفي مرة واحدة على الأقل، رأينا جندياً يذبح من الوريد إلى الوريد، على الطريقة «الداعشية» ... رأينا جنوداً عراة، ومقبرة تعد للخونة، الذين لا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ... رأينا محاولة لطي آخر صفحة للجيش التركي، بوصفه لاعباً رئيسا على الساحة الداخلية، ومعقلاً للعلمانية الأتاتوركية وضامناً لها ... المؤكد أن إجراءات إعادة الهيكلة التي أقرها مجلس الأمن القومي والحكومة، ستوفر لأردوغان في تركيا، ما استعصى على مرسي في مصر: الإمساك بتلابيب المؤسسة الأمنية والعسكرية مرة وإلى الأبد، وإعادة هيكلتها، وربما أدلجتها وتحزبيها، بعد فكها وتركيبها، ومن ضمن مشروع «التمكين» ذائع الصيت، الذي اشتهرت به الحركات الإسلامية.
أردوغان سيمضي على هذا الطريق، مدعوماً من واشنطن هذه المرة، وليس مستهدفاً منها كما تردد في بعض وسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي، حتى وإن ضربت أوروبا رأسها بالحائط ... فهذه الوسيلة، وبها وحدها، لن يضمن أردوغان عدم تكرار المحاولات الانقلابية فحسب، بل وسيضمن بقاءه في السلطة إلى ما شاء الله.
وسيحظى أردوغان بدعم أطراف لم يكن ينتظر دعمها من قبل ... موسكو ستقف إلى جانبه، وهي الأقل اعتناء بملف حقوق الانسان والتحول الديمقراطي، إيران عبرت عن ذلك بكل وضوح وقبل غيرها... الأطلسي الذي تعامل مع تركيا بكل حقبها المدنية والعسكرية، لن يجد صعوبة في التكيف مع تركيا الجديدة، سيما بعد الاستدارة في الموقف الأمريكي من الحذر والترقب، إلى تأييد «الشرعية» وصولاً إلى تأييد «العقوبات الجماعية» التي اتخذتها، وشملت هذه المروحة الواسعة من المستهدفين ... أما إسرائيل، فقد قطعت الشك باليقين، وعبرت عن ثقة عميقة بقدرتها على إدارة أفضل العلاقات الثنائية، بوجود أردوغان وحزبه، أو مع الجنرالات وحكم العسكر.
تركيا بعد المحاولة الانقلابية، لن تعود إلى ما كانت عليه قبلها... وتركيا بعد أشهر ثلاثة من «الطوارئ» بالكاد سنتعرف عليها ... لكن يبقى الأمل، في ألا يفقد الشعب التركي بقواه ومؤسساته المختلفة، القدرة على مقاومة «الاستبداد» مثلما أظهر قوة وصلابة ووحدة في مواجهة الانقلاب وحكم العسكر ... تركيا دخلت «ثنائية العسكر والإسلاميين»، بعد أن وفرت نموذجا ناجحاً على تجاوز هذه الثنائيات القاتلة في عالمنا العربي ... تركيا «تتعرب» و»تتمشرق» بمعدلات متسارعة، ستزداد تسارعاً عندما تغلق أبواب الاتحاد الأوروبي بإحكام في وجهها، إن ظل الحال على هذا المنوال، وما لم يطرأ في الأفق أي جديد ناشئ أو مفاجئ.