ظاهرة عولمة الإرهاب

الدار البيضاء اليوم  -

ظاهرة عولمة الإرهاب

محمد الأشهب

ما استطاعه حراك الشارع العربي في إطاحة علامات الاستبداد، من قبيل إلغاء حال الطوارئ، وعودة الجيش إلى ثكناته، وبلورة معالم تعددية خلافات الرأي والانتماء، وما إلى ذلك من الظواهر السلبية، يبدو في طريقه لأن يصبح واقعاً مفروضاً. لم يأت على ظهور الدبابات والانقلابات، بل أملته حرب لا هوادة فيها على الإرهاب.

نقيض الظاهرة يكمن في الحرية وصون حق الحياة والاختلاف وإقامة دولة المؤسسات الديموقراطية، واحترام حقوق وكرامة الإنسان. غير أن سطوة الإرهاب الأعمى الذي يضرب في كل اتجاه، باتت تحتم فرض قبضة حديد، أقله لبناء سياج أمني يحد من الانفلات ويغطي الثغرات التي ينفذ منها الإرهابيون الجدد. وإنه لأمر مثير أن تنفجر كل هذه الأحداث المأساوية بعدما كادت دول وشعوب تطمئن إلى أنها عبرت في اتجاه الضفة الأخرى لما بعد ثورات وانتفاضات.

لا فارق بين السمات المشتركة للأعمال الإرهابية، أكانت تضرب في المنطقة المغاربية أو الخليج أو بعض البلدان الأوروبية والإفريقية. لكن التجربة التونسية تحديداً تطرح تساؤلات جدية حول الأسباب التي أدت إلى الوصول إلى مفترق الطرق، ومن بينها ضريبة الجوار الجغرافي. وبينما ينزع العالم المتحضر إلى الإفادة من عولمة الاقتصاد والفكر والاختراع والمدى الذي بلغته الثورة التكنولوجية الهائلة، تطل ظاهرة عولمة الإرهاب بوجهها البشع. مؤكدة أن القرية الصغيرة التي تصورها الفكر الإنساني الخلاق اختزالاً لشساعة العوالم والحضارات والأجناس والعقائد، صارت في تجليات مأساوية عنواناً للإرهاب والعنف والانتقام من كل ما هو حضاري وإنساني.

في التداعيات السلبية للجوار أن دولة الكويت الآمنة أصابتها شظايا الحروب المذهبية. كما أن تونس الخضراء ابتليت بوشاح الدم الأحمر الذي يتدفق عبثاً في جوارها الليبي. ولا مناص من أن العدوى في طريقها إلى الانتشار كما الهواء الملوث. والظاهر أن الذين أبدوا المزيد من الانشغال بتدويل الظاهرة الإرهابية وخشية أن تستولي التنظيمات الإرهابية على أسلحة دمار، فاتهم أن العنصر البشري تحول إلى قنابل موقوتة تسلبه إرادة التحكم والعقل.

ليس غريباً أن من نزع عن الطائرات المدنية هويتها وروح اختراعها لتقريب المسافات وتحقيق الألفة بين البشر بمختلف الأجناس واللغات والأديان. وحولها إلى سلاح تدمير لن يتوقف أمام صنواتها من عربات ووسائل النقل التي أصبحت نذير شؤم عبر تفخيخها بآليات الدمار. وحين لا يتأتى لهذه الوسائل أن تكون في متناول اليد، يأتي دور الإنسان الممنطق بالأحزمة الناسفة والمتفجرات لينوب عنها في إلحاق الأذى بالآخرين. أي عجز أكثر من هذا يهوي على قيم الوجود الإنساني في لحظة متهورة منفلتة عن كينونة الإنسان الذي ينشد المحبة والإعمار ومهمة الاستخلاف على الأرض.

الإرهاب كان منذ القدم، إذ يحفل التاريخ بنماذج يغيب عنها العقل وتسود الغرائز ومنطق التصفيات، وفي العالم العربي تحديداً سبق موجة ما يعرف بالربيع العربي، وكثيراً ما كان يستهدف رمزيات حضارية وسياسية ارتبطت بأدوار مؤثرة في الساحة السياسية، إلا أنه زاد استفحالاً بعد انتكاس تحولات عميقة كان الشارع العربي يعول على أن تجلب الحرية والعدالة الاجتماعية والفرص المتكافئة وبناء مجتمعات منتجة. هل لذلك علاقة بانهيار نظم لم تخلفها أخرى قادرة على الإمساك بزمام الأمور، عبر التداول الديموقراطي، أم أن لإفرازات «الفوضى الخلاقة» تداعيات في شكل انهيار قدرات مقاومة التحديات الأمنية والتهديدات الإرهابية؟

في أي حال لا تعود المياه إلى مجاريها. وما من شك في أن الحماس الدولي الذي يرتفع بريقه وزخمه، كلما كان ضحايا الأحداث الإرهابية في أماكن خارج الرقعة‬ العربية، يلوذ إلى التراخي والفتور إذ تكون ساحاته عربية الانتماء، وإن سقط ضحايا أجانب فقد تداعت بلدان الاتحاد الأوروبي إلى إقرار خطة مواجهة متعددة الواجهة، إجرائياً وقانونياً واقتصادياً وفكرياً. وعندما بدا لبلدان المنظومة ذاتها أن الهجرة غير الشرعية المتنامية في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط تتسع أكثر، تم إقرار خطة مواجهة لا تستثني البعد العسكري. لكن جامعة الدول العربية ومؤسسة القمة العربية لا تتحرك أمام اتساع رقعة الحريق الإرهابي. وإذا كان العالم يتفرج على تمدد دولة «داعش» المصنفة رأس حربة في الظاهرة الإرهابية، فأي شيء يمكن توقعه حين يضرب الإرهاب في شكل انفرادي أو جماعي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ظاهرة عولمة الإرهاب ظاهرة عولمة الإرهاب



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 19:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 04:50 2017 الأحد ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

افتتاح أكاديمية الرجاء البيضاوي لكرة القدم آذار المقبل

GMT 04:17 2017 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مدرب الدفاع الجديدي مُهدد بعقوبة قاسية من الاتحاد المغربي

GMT 14:39 2015 الجمعة ,29 أيار / مايو

لوحات إشهارية لشركات كبرى فوق أسواق أغادير

GMT 01:06 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الكشف عن النسخة المصغرة من لعبة تماغوتشي القديمة

GMT 23:23 2014 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

صالونات مغربية باللون الأزرق تحقق مبيعات هائلة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca