ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

الدار البيضاء اليوم  -

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون

طاهر المصري
بقلم : طاهر المصري

لا شكّ بأن وسائل الاتصال الحديثة فرضت وتفرض على دول العالَم ومجتمعاته جميعها تحديات جديدة، وبالتالي إجراءات جديدة تحمي حياة المواطنين وحرياتهم وتحمي اقتصادات الدول ومصالح مؤسساتها وبنيتها التحتية المتطورة. وهو ما يحدث اليوم في كل دول العالم، بلا استثناء، ولكن هذا التحديث للقوانين لا يتمّ عشوائياً، ولا من دون ضوابط، ولا بأشكالٍ تنقلب كليّاً على المبادئ الأساسية والدستورية الناظمة لحياة المجتمعات والدول وحقوق المواطنين الأساسية التي تكفلها الدول والسلطات. بل على العكس تمامــاً، يحـــدث ذلك على نحو ينحكم لتلك الضوابــط والأسس، ولا ينقلب عليها، ولهذا تسمّى تلك الإجراءات بالتحديث، وليس إلغاءً للحقوق وضوابطها.

حتى اللحظة، لا أستطيع أن أفسر كيف ساوت الحكومة الأردنية في مشروع قانون الجرائم الإلكترونية المقترح، بالدمج على نحو قاسٍ، بين البنود التشريعية اللازمة لحماية مكوّنات ومؤسسات البنية التحتية للمجتمع والدولة، التي تتطوّر رقمياً، كما هو جارٍ في كل دول العالم، في قطاعات الاقتصاد والمال والمعلومات والدفاع والمياه والصحة والأمن السيبراني وغيرها، وبيـــن حقوق المواطنين الأساسية في إبداء الرأي والتعبيــر، التي كفلها الدستور الأردني على نحو مباشر وواضح!

إذ لا علاقة لمضامين هذا القانون المقترح بـ«الاستراتيجية العربية للتعامل مع شركات الإعلام الدولية»، ولا بالعناوين التي ساقها وزيـــر الاتصال الحكومي الناطق الرسمي باسم الحكومـــة : بـــأن قانونها العتيد يسعى إلى «حماية القضايا العربية والإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية من الدعاية السلبية، وحماية الأطفال والناشئة من المحتوى الضار، والتصدي لخطاب الكراهية، والأخبار الكاذبة والاعتداء على الخصوصية»، وصولاً إلى أسوأ ما تمّ التعبير عنه بالقول «إن كل فعل مُجرّم في الواقع الفعلي يجب أن يكون مجرّما في الفضاء الرقمي الافتراضي». فمنطـــق الأشياء يقول، أن الدولة، وقبل الإلكترون وقوانينه وجرائمه، لديها قوانين عقوبات تحمي مواطنيها من كل أشكال الجريمة، بما في ذلك جرائم الكتابة والتصوير وكافة وسائل التعبير، وهو ما هو وارد حرفياً في الدستور الأردني: في «القول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير». فعبارة «سائر وسائل التعبير» تشمل الوسائل الإلكترونية وغيرها!

كما إن إقرار هذا القانون، بشكله الحالي، سيجعل من المادة (15)، من الدستور الأردني، مادّة سالبة لحقّ المواطن الأردني، في الرأي والتعبير؛ وهي المادة التي تقول: «تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائــر وسائل التعبير بشرط ألا يتجاوز حدود القانون»، بمعنى أن القانون المقترح، بعقوباته الغليظة، هو ما يحدّد معيار الجريمة، وبما يسلب المواطن كفالة الدولة لحقّه في التعبير! سيّما وأنّ قسماً كبيراً من مواد القانون المقترح تتعلّق بالحريات العامة، وبعلاقة أفراد المجتمع بالدولـة ومؤسساتها الحكومية، وبعلاقة الحكومة بشركات ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي.

صحيحٌ أن بلادنا الأردنية تعيش أوضاعا صعبة، وفي منطقة تعاني أيضاً من أحوال أصعب. وصحيح أيضا، أن للدولة احتياجات متجددة، للمحافظة على الهدوء والاستقرار، غير أنّه، في الـــوقت نفسه، ينبغي التذكّر بأنّ الشعب الأردني هو شعب صابر وملتزم وموالٍ، ولا يجوز، بأيّ حال، أن يُحرم من حريّاته الطبيعية كإنسان، وعلى النحو الذي يتهدّدها به القانون المقترح. إذ لا حاجة موضوعية لقانون كهذا، بل ولا مبررات منطقية سليمة له. فالمواطن الأردني هو انسان ديناميكي وطموح تتلمذ على يديه مئات الالاف في الاقطار العربية يريد أن يشعر بوجوده وكيانـــه وشخصيتـــه، والحاجـة اليوم ملحّة، وأكثر من أيّ وقت مضــــــى، لمراعاة هذا الشعور عند المواطن الأردني، والذي يرغب بممارسة تلك الحقوق الطبيعية بشكل مسؤول.

ومن نافلة القول هنا أن بعض الأشخاص يكتبون ويعبرّون بطريقة منفّرة أو غاضبة أو مزايدة، وهذا موجود في كلّ مجتمعات العالم فدعونا لا نحقق لهم مأربهم ، والشعب الأردني له الحقّ بالشعور بحرية التعبير، ورأيه في إدارة السياسات العامة لحياته، سيّما في ظلّ الضائقة الاقتصادية والسياسية واليومية التي يعيشها، وهو ما يعني ويقضي بأن نكون واثقين بشعبنا أكثر، ذلك الشعب الذي أظهر محبته وولاءه، في كل المناسبات والظروف، فنحن بحاجة لأن يكون المواطن مسؤولا عن الاستقرار والهدوء في البلد، وهو كذلك بالفعل.

لا مجال هنا للحديث عن توازن في مواد هذا التشريع المقترح، فقد  جرت العادة عند إقرار نصوص مشدّدة في التشريعات، ألا تظهر مشكلاتها إلا عند التطبيق العملي لتلك التشريعات، حيث يبدأ تفسيرها وتطبيقها بشكل مختلف، ويبدأ الأخذ بالظروف والعقوبات الأشدّ، لنجد أنفسنا سائرين في طريق خاطئ ومختلف تماما.
إننا نعيش أوقاتا صعبة، ومستقبلا وظروفا مرتبكة وقاسية، غير أن علاجها لا يكون بتكميم الأفواه، فهناك وسائل إدارية وتربوية وإعلامية واجتماعية أخرى، والشعب نفسه غير قابل أن تمسّ إيّ من حرياته وحقوقه.

ولعلّ أبرز مشكلات هذا التشريع هو ما يكشفه من تناقض صارخ وإرباك أمام الرأي العام، في الداخل والخارج؛ فرأس الدولة جلالة الملك يتحدث عن الحريات، ويتحدث عن دعم الشباب، ويتحدث عن تأليف الأحزاب والحياة الحزبية، باعتبارها مستقبل البلد السياسي، ويتبنى عناوين لقيمٍ ديمقراطية عالية، ثمّ تأتي الحكومة وتقدّم تشريعاً كهذا، يتناقض مع توجهات رأس الدولة، في الحريات والحياة الحزبية والديمقراطية!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون



GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 09:08 2022 السبت ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الجمبسوت لإطلالة عملية ومريحة في فصل الخريف
الدار البيضاء اليوم  - الجمبسوت لإطلالة عملية ومريحة في فصل الخريف

GMT 09:37 2022 السبت ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية ممتعة لعُشاق الرحلات الشتوية
الدار البيضاء اليوم  - وجهات سياحية ممتعة لعُشاق الرحلات الشتوية

GMT 12:44 2022 السبت ,15 تشرين الأول / أكتوبر

اللون البنّي الأفضل للديكورات الدافئة في المنزل
الدار البيضاء اليوم  - اللون البنّي الأفضل للديكورات الدافئة في المنزل

GMT 11:27 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

محطات وشخصيات صنعت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"
الدار البيضاء اليوم  - محطات وشخصيات صنعت هيئة الإذاعة البريطانية

GMT 05:39 2022 السبت ,15 تشرين الأول / أكتوبر

موديلات فساتين سهرة من وحي أنابيلا هلال
الدار البيضاء اليوم  - موديلات فساتين سهرة من وحي أنابيلا هلال

GMT 11:11 2022 الخميس ,13 تشرين الأول / أكتوبر

كيم كارداشيان تُطلق إكسسوارات خاصة بديكور المنزل
الدار البيضاء اليوم  - كيم كارداشيان تُطلق إكسسوارات خاصة بديكور المنزل

GMT 09:53 2022 الخميس ,13 تشرين الأول / أكتوبر

بوتين يُؤكد أن العلاقات بين روسيا وقطر تتطور بنجاح
الدار البيضاء اليوم  - بوتين يُؤكد أن العلاقات بين روسيا وقطر تتطور بنجاح

GMT 10:31 2017 الإثنين ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

سعيد الإدريسي ريفي عصامي ينال ثقة سكان بلدية بالدنمارك

GMT 00:50 2016 الخميس ,09 حزيران / يونيو

دنيا سمير غانم تكشف كواليس مسلسل "نيللي وشريهان"

GMT 11:37 2015 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أهم طرق التعامل مع الرجل الخجول

GMT 19:15 2018 الأربعاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

اللاعب نيمار يقود باريس سان جيرمان لاكتساح ريد ستار بسداسية

GMT 02:12 2017 السبت ,02 كانون الأول / ديسمبر

حمدالله يغيب لمدة أسبوعين بسبب الإصابة

GMT 04:29 2017 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

هيفاء وهبي ترفض استلام الجائزة العالمية بسبب سوء التعامل

GMT 01:43 2017 الثلاثاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أردنية تبدع في صناعة حلوى الدونات بطريقة جذابة

GMT 15:02 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

كلوب يؤكّد أن الهزيمة أمام "سان جيرمان" وضعته في مأزق

GMT 20:50 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ساري يكشف صعوبة المنافسة على لقب الدوري الإنجليزي

GMT 16:58 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

تيباس يكشف عن رغبته في عودة البرازيلي نيمار للدوري الإسباني

GMT 17:42 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

يورغن كلوب يُعلن قادة ليفربول الإنجليزي بالانتخاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2021 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2021 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca