وثيقة تأسيس الدولة المصرية

الدار البيضاء اليوم  -

وثيقة تأسيس الدولة المصرية

زاهي حواس
بقلم : زاهي حواس

يتفق علماء الآثار فى العالم كله، رغم أنهم قلما اتفقوا على رأى، أن أغلى وأجمل أثر على كوكب الأرض هو القناع الذهبى للفرعون الشاب توت عنخ آمون. هذا الاتفاق يأتى على الرغم من اكتشاف علماء الآثار آلاف القطع الأثرية بمختلف بقاع الأرض، والتى تصنف بأنها آثار نادرة لثقافات وحضارات مختلفة. ولا يزال العلماء يبحثون ويدرسون سبب الإجماع على أن قناع توت عنخ آمون هو رقم واحد فى قائمة أغلى وأجمل قطعة فنية من حضارات العالم القديم.. هل هو بريق الذهب الخالص؟، أم براعة وجمال صناعته؟، أم أنها تلك الملامح الملكية السامية لملك شاب توفى ولم يتخط عامه العشرين؟، أم أنها تلك النظرة الحزينة الناعسة التى تطل علينا من عالم الخلود؟، أم أن السبب هو كل ما تقدم؟!. ومهما يكن من أسباب تكريم مصر باختيار أثر من آثار حضارتها على رأس قائمة أغلى قطعة فنية فى الوجود، فإن التكريم الأكبر والأهم هو أن النص التأسيسى للدولة المصرية كأول دولة فى الوجود، لا يزال بين أيدينا محفوظا كما لو كان صنع بالماضى القريب وليس منذ خمسة آلاف ومائة سنة!.

إنها المعجزة الكبرى للحضارة المصرية القديمة، أن تظل وثيقة تأسيسها محفوظة بشكل مثالى واضح لا لبس فيه. إننا هنا نتحدث عن أهم وثيقة تاريخية على كوكب الأرض، أو كما وصفها عالم الآثار الأمريكى بوب براير «أول وثيقة تاريخية فى العالم»، وهى المعروفة بصلاية الملك نعرمر، المعروف لدى العامة بالملك نارمر. ولا يوجد هنا وجه للمقارنة بين قناع الملك توت وبين صلاية الملك نعرمر التى تفوقه فى الأهمية وفى الدور الذى لعبته فى الحضارة المصرية منذ عصر النشأة وحتى نهاية التاريخ الفرعونى. وسوف نعرض الأسباب والحجج التى تبين ذلك بعد أن نقدم وصفا لذلك الأثر الذى لا مثيل له بين كل آثار العالم.

يصل ارتفاع الصلاية إلى ٦٣ سنتيمترًا، وهى مقطوعة من لوح مسطح من حجر الغرين (الطمى) الأخضر المعروف باسم Siltstone، والذى تشكل منذ آلاف السنين فى الطبيعة مع بعض المعادن، وقد تحول إلى الصورة الصلبة الحجرية بفعل الضغط الهائل والحرارة، ومحاجره معروفة فى منطقة وادى الحمامات بالبحر الأحمر. وقد ظل الفراعنة يستخدمون هذا الحجر منذ عصورهم المبكرة وخلال عصر الأسرات، ربما لنقائه من الشوائب، وسهولة نحته وتشكيله، ولونه الأخضر الداكن وما له من رمزيات دينية كالخصب والنماء وإعادة الإحياء. ومن أهم التماثيل التى نحتها الفنان الفرعونى من هذا الحجر تمثال الملك خع سخموى من ملوك الأسرة الثانية. وللأسف الشديد كثيرا ما يخلط الدارسون وطلاب الآثار بين هذا النوع المميز من الأحجار وبين حجر الشيست الأخضر، وللأسف يشير كثير من المراجع خطأ إلى أن صلاية الملك نعرمر منحوتة من حجر الشيست الأخضر!.

عثر على الصلاية فى خبيئة معبد الإله حورس بمدينة نخن بصعيد مصر، والتى تعرف باسمها اللاتينى هيراكونوبوليس، وذلك فى عام ١٨٩٧ بواسطة عالم الآثار الإنجليزى جيمس كويبل وزميله الباحث فريدريك جرين. وكانت الصدمة الأولى بالنسبة لهما أن الصلاية فى حالة حفظ أكثر من ممتازة لم يمسسها خدش!، وازدادت صدمتهما بعد أن قاما بتنظيفها ورؤية نقوشها والمناظر المنحوتة على وجهيها والتى تمثل الإعلان الرسمى عن قيام الدولة المصرية ووحدة أراضيها الشمالية والجنوبية تحت حكم ملك مصرى واحد وحكومة مركزية يديرها وزير معين ومسؤول أمام الملك. ليس هذا فقط بل إن العلامات الهيروغليفية على الصلاية والتى تمثل أسماء لأشخاص ومدن، وألقابا لموظفين كبار، تمثل أولى العلامات الكتابية فى اللغة المصرية القديمة. كذلك فإن القواعد الفنية التى ظهرت فى المناظر المنحوتة قد أسست لقواعد الفن المصرى القديم، وظل معمولا بها طوال أكثر من ثلاثة آلاف سنة ومنها قواعد المنظور الخاصة بالفن المصرى القديم وأسلوب تصوير الملك بالنسبة لمن حوله وغيرها من القواعد. كل هذا يؤكد أننا أمام أهم قطعة أثرية فى مصر والعالم. ولمن لا يعرف، فإن صلاية الملك نعرمر موجودة بمصر منذ يوم الكشف عنها والى يومنا هذا، وهى محفوظة الآن بالمتحف المصرى بميدان التحرير. وسبب بقائها بمصر عجيب جدا ومحزن فى ذات الوقت!، فهى لم تبق لأن ذلك حق مصر فى بقاء آثارها بها ولكن لأن المكتشف كان إنجليزيا وأن من كان يدير مصلحة الآثار فى ذلك الوقت كان فرنسيا، فكان العداء التاريخى بين فرنسا وإنجلترا هو ما أنقذ وثيقة تأسيس الدولة المصرية من الخروج من مصر لتزين متحف بلد لا تنتمى له من قريب أو بعيد.

صُوّر على وجه الصلاية الملك نعرمر واقفا بجسد فارع ممشوق تنفر منه العروق دليل القوة، وقد احتلت صورته معظم مساحة السطح بحيث لا تخطئه عين المشاهد الذى لا يحتاج لمن يقول له إن هذا هو الملك نعرمر، مرتديا التاج الأبيض تاج الجنوب. كذلك لا يحتاج إلى قراءة اسم الملك المكتوب فى منتصف قمة الصلاية داخل ما يعرف بواجهة القصر، يحميه من اليمين واليسار رأسا البقرة «بات» بقرونها القوية وأذنى البقرة وملامح وجه بشرية بديعة. و«بات» هى الإلهة الحامية للمقاطعة السابعة من مقاطعات الصعيد وعاصمتها «نخن». وتداخلت الإلهة «بات» فيما بعد بالإلهة البقرة «حتحور»، والتى ضغت عليها فتوارت «بات» وبزغ نجم «حتحور» طوال العصور الفرعونية. يرفع الملك نعرمر مقمعته الحجرية بيده اليمنى، يهوى بها على رأس عدوه القابع أسفل قدميه، وقد أمسك الملك بتلابيب رأسه، وبدا مستعدا لتحطيمها بمقمعته، ومن فوق رأس العدو يأتى الإله حورس ليسلم أراضى الدلتا للملك، ومن خلف الملك، صور خادمه بهيئة صغيرة، حاملا صندل الملك وإناء الماء، لكى يغتسل الملك المحارب بعد إتمام مهمته المقدسة وهى توحيد مصر شمالا وجنوبا، معلنا قيام الدولة المصرية، وأسفل الصلاية نرى المهزومين يفرون من وجه الملك.

وعلى الوجه الثانى للصلاية نرى النص التأسيسى للدولة المصرية، ويُقرأ هكذا: إن ملك مصر، الثور القوى، قد حطم مدن وحصون الأعداء الذين حاربوا وحدة مصر، وقيامها كأول دولة فى الوجود. مُثّل ذلك واضحا بتصوير الملك فى المستوى الأول من أسفل كثور هائج يحطم حصون الأعداء. ويلى ذلك تصوير الفنان نتيجة هذه الجهود، وهى تُقرأ هكذا: إن جهود ملك مصر قد أثمرت بتوحيد البلاد شمالا وجنوبا تحت حكمه كملك للشمال والجنوب. وقد صور المنظر فى المستوى الثانى الأوسط حيوانين خرافيين، وقد التفت رقبة كل منهما بالآخر مكونتين دائرة فى المنتصف، ما جعل الباحثين يصنفون الأثر بكلمة صلاية، والتى تعبر عن حجر صحن الكحل وأدوات التجميل والزينة، وكانت الصلايات من العتاد المنزلى ومن ضمن الأدوات التى تستخدم فى الأغراض اليومية. أما صلاية نعرمر فهى صلاية رمزية لم تصنع لأغراض الاستخدام الفعلى وإنما الطقسى فى المعبد مثلها مثل الوثائق والنصوص التأسيسية. ويلى منظر توحيد مصر مشهد الخاتمة، الذى يصور الملك بقامته الممشوقة، متوجها للصلاة فى معبد الإله حورس ليقدم شكره لعون الإله له ومساعدته فى توحيد مصر، وقد ارتدى الملك نعرمر فى هذا المشهد كامل ردائه الملكى، حاملا مقمعته فى يده اليسرى، بينما الشارة الملكية المعروفة بالنخخا فى يده اليمنى مضمومة إلى صدره، وعلى رأس الملك التاج الأحمر، تاج الدلتا. ويسير خادم الملك خلفه حامل الصندل الملكى وإبريق الماء، ويسير أمام الملك رئيس وزرائه يتقدمهما حملة الأعلام والشارات. ويستقبل الوفد صاحب المعبد الإله حورس مرحبا بمقدم الملك، وقد تم تقديم البرهان له على النصر حيث تراصت جثث الأعداء، فى إشارة واضحة بأن ذلك هو مصير من يعتدى على وحدة مصر.

لا تقدر صلاية الملك نعرمر بكنوز الأرض، وهى وثيقة تأسيس الدولة المصرية رغم أنف كل من حاول التشكيك فى أهميتها بدافع الغيرة؛ حيث استكثر هؤلاء على مصر أن تمتلك وثيقة تأسيسها التى يبلغ عمرها ٥١٠٠ سنة، بينما بهتت وبليت وثائق دول عظمى لم يتخط عمرها ثلاثة قرون، فهل يليق بنا أن نضع هذا الأثر الفريد فى الموضع الذى هو به الآن، بعد أن كان متصدرا صحن المدخل فى المتحف المصرى؟!.. سؤال نحتاج إجابة له. ألا يليق بهذا الأثر أن يتصدر بهو مدخل المتحف المصرى الكبير فى فاترينة عرض بمواصفات خاصة تليق بمكانته وأهميته كنص تأسيس مصر والحضارة الفرعونية؟.. ألا تمثل الحضارة الفرعونية صلب سيناريو العرض بالمتحف الكبير؟، ألم تقم الحضارة المصرية سياسيا وثقافيا على القواعد والمثل الممثلة فى صلاية الملك نعرمر؟، أم هى فقط عمل فنى لكى يتم معاملته هكذا بالمتحف المصرى ضمن سيناريو العرض الجديد؟.. أعلم جيدا أن الدكتور خالد العنانى وزير السياحة والآثار، والدكتور مصطفى وزيرى الأمين العام للمجلس الأعلى للأثار، لن يتركا الأمر يمر هكذا.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وثيقة تأسيس الدولة المصرية وثيقة تأسيس الدولة المصرية



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 15:10 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

رئيس الرجاء يحاول اقتناص لاعبين أحرار بدون تعاقد

GMT 05:33 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن موقع هبوط يوليوس قيصر لغزو بريطانيا

GMT 09:33 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

عهد التميمي

GMT 10:19 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الروسي يعلن وصول أول كتيبة من سورية إلى موسكو

GMT 11:50 2016 الثلاثاء ,20 أيلول / سبتمبر

مقتل 4 من عناصر "بي كا كا" في قصف تركي شمالي العراق

GMT 06:09 2017 الجمعة ,01 كانون الأول / ديسمبر

8 معلومات مهمة عن "جسر العمالقة" تزيد الفضول لزيارته

GMT 17:21 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مدرب الأرجنتين يعلن عن تشكيلته لمواجهة البرازيل

GMT 00:21 2016 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

صحيفة بريطانية تكشف أفضل 10 فنادق في مدينة روما

GMT 22:46 2017 الخميس ,28 أيلول / سبتمبر

حسن الفد يعيد شخصية كبور من خلال عرضه " سكيتش"

GMT 16:29 2017 الثلاثاء ,03 كانون الثاني / يناير

2016 عام حافل بالأنشطة والعروض في الدار العراقية للأزياء

GMT 04:38 2015 الثلاثاء ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مرضٌ خطير يصيب الأبقار ويعزل عشرات القرى في سطات

GMT 21:21 2015 الأربعاء ,11 آذار/ مارس

وفاة الممثل المسرحي المغربي إدريس الفيلالي

GMT 00:11 2017 الجمعة ,13 تشرين الأول / أكتوبر

تحف فنية من الزخارف الإسلامية على ورق الموز في الأردن

GMT 23:14 2016 الإثنين ,25 إبريل / نيسان

ماهي فوائد نبتة الخزامى ( اللافندر )؟

GMT 00:00 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

Velvet Orchid Lumière Tom Ford عطر المرأة الرومانسية

GMT 20:32 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

حيوانات الرنة مهددة بالانقراض بسبب تغير المناخ
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca