عمر الشريف

الدار البيضاء اليوم  -

عمر الشريف

زاهي حواس
بقلم : زاهي حواس

 

سيظل يوم الجمعة العاشر من شهر يوليو عام ٢٠١٥ عالقًا بذاكرتى، ففى صباح ذلك اليوم جاءتنى مكالمة طارق عمر الشريف ليخبرنى بأن أباه عمر الشريف قد مات!، وحدّثنى «طارق» وقتها عن رغبته في عدم إعلان موعد الجنازة حتى لا يحدث ما حدث في جنازة أمه، سيدة الشاشة العربية، فاتن حمامة، من تكالب الناس والمصورين على النعش، ما أدى إلى سقوطه!، ولذلك اتفقنا على أن تكون صلاة الجنازة في مسجد المشير طنطاوى، وأن يُدفن عمر الشريف بجوار حفيدته في مدافن فهمى باشا، وهى مدافن عائلة زوجة «طارق» السابقة، السيدة شهيرة فهمى، وذلك حسبما أوصى به عمر الشريف.أما عن سبب كتابة ذلك المقال فهو الاتصال التليفونى الذي تلقيته من صديقى، مارك مورانو، الشهر الماضى، وكان لا يزال يشغل منصب القنصل الأمريكى في مصر، وذلك قبل انتهاء خدمته في مصر ونقله إلى العمل بالسفارة الأمريكية ببيروت. وخلال تلك المكالمة أسَرَّ إلىَّ «مارك» برغبته قبل رحيله عن مصر في زيارة قبر عمر الشريف في ذكرى وفاته. وأخبرت «مارك» أننى خارج مصر، وعند عودتى سنقوم معًا بزيارة قبر عمر الشريف، واتفقنا على اللقاء يوم ١٤ يوليو الماضى.

وفى اليوم المحدد تقابلنا وكان معنا صديق أمريكى آخر يدعى «جيف». وكان أول شىء قمت به هو بالطبع الاتصال بالسيدة شهيرة فهمى لكى تساعدنى في ترتيبات الزيارة وفتح المدفن. وبالفعل أعطتنى تليفون الشخص الذي يعرف المكان جيدًا، ومن خلاله حصلت على تليفون التربى المسؤول عن المدفن. وبالفعل وصلنا إلى المدفن ودخلنا نحن الثلاثة. وقبل أن أقص عليكم ما حدث وما شاهدناه، لا بد من أن أُسِرَّ لكم بالحقيقة، وهى أننى من الناس التي تخاف الدخول إلى المدافن الحديثة، فيوم وفاة أبى رفضت الدخول إلى القبر، وأنا أكبر الأبناء، وفضلت الوقوف بعيدًا عن مدخل القبر. وكان المرحوم أنيس منصور يتندّر على ذلك، خاصة وأنا مَن قام بالكشف عن آلاف المومياوات.

لم يعرف بموعد جنازة عمر الشريف سوى عدد محدود، منهم وزير الثقافة في ذلك الوقت، وبعض الأصدقاء المقربين والفنانين، ومنهم الفنان خالد النبوى. وأذكر في ذلك اليوم موقفًا غريبًا من أحد الصحفيين، الذي بادرنى بالسؤال عن ديانة عمر الشريف، وهل هو يهودى؟!. لم أتمالك أعصابى وأَسْمعته ما لا يحب أحد أن يسمعه، ليس لأن الديانة اليهودية عيب أو جريمة!، ولكن لأن هذا إنسان عاش حياته مسلمًا، وتزوج من مسلمة، ومات ويصلَّى عليه في المسجد، وقد أوصى بأن يُدفن بجوار حفيدته بمقابر المسلمين!، فلماذا السؤال، وما الداعى إلى الشائعات؟!.

عند دخولى أنا و«مارك» و«جيف» إلى المدفن وجدناه يعانى من المياه الجوفية، وقد أخبرنى التربى أنهم قاموا بنقل جثمانى «عمر» وحفيدته إلى مقبرة مجاورة داخل المدفن لكيلا تصلهما المياه الجوفية. ومكثنا داخل المدفن لمدة نصف الساعة، وقد قرأت الفاتحة وترحّمت على صديقى عمر الشريف، وكانت لقاءاتنا وأحاديثنا معًا تمر أمام عينى كشريط السينما، وقد أفَقْت على صوت «مارك» يسألنى بتعجب: «زاهى»، كيف يكون هذا هو قبر عمر الشريف، ولا توجد لوحة جنائزية باسمه على المقبرة التي هو مدفون بها؟!، وتنبهت بالفعل إلى أنه لا توجد لوحة تشير إلى موضع دفن «عمر». ولذلك عاودت الاتصال بـ«طارق» مرة أخرى، وسألته عن السبب فقال لى إن المدافن كما تعلم تخص عائلة فهمى باشا، وإن سيف فهمى هو المسؤول عن ذلك الموضوع. وبالفعل تحدثت مع «سيف»، وهو صديق لى، وقد أوضح لى أن المدفن يعانى من المياه الجوفية، ولذلك كان من الصعب عمل أي شىء قبل معالجة المشكلة، وبعدها سيتم وضع اللوحة الخاصة بعمر الشريف، والجاهزة بالفعل منذ وقت طويل.

كان عمر الشريف من أَحَبّ الناس إلى قلبى، إنسانًا بكل المعانى، وأتذكر ذات مرة قبل أن يُصاب بالمرض اللعين أنه وقف أمامى وهو يضحك ويقول لى: انظر لقد تخطى عمرى ٨٣ سنة، ولم يظهر لى كرش، ومازلت أبدو في حيوية شاب في العشرين من عمره. لقد كان المولى عز وجل رحيمًا بـ«عمر»، الذي عانى فقط لمدة عام واحد من مرض الزهايمر، الذي كان يتطور معه بسرعة مخيفة، وكانت المرة الأولى التي أعلم بها بمرضه عن طريق الممثلة العالمية، جاكلين بيست، التي كانت تُكرم معه في أحد المهرجانات بموسكو، واتصلت بى لتخبرنى أن عمر الشريف ليس بخير، وأن تصرفاته ليست طبيعية، بعدها اكتشفنا أنه أُصيب بالزهايمر، وجاء إلى مصر ليعيش بأحد الفنادق، وكنت أصحبه يوميًّا للعشاء والخروج معه، وفى أحد الأيام نظر إلىَّ، وقال إن هناك صديقًا عزيزًا على قلبه يعيش في مصر ويود أن يقابله. وعندما سألته عن اسم ذلك الشخص، نظر إلىَّ وقال إنه لا يتذكر، لكنه يذكر أن صديقه هذا يعمل في التراب والحجارة؟، فقلت له: هل اسمه زاهى حواس؟، فرد علىَّ: نعم!، زاهى حواس.

ظللت الشخص الوحيد الذي يألفه عمر الشريف ويطمئن للخروج معه. وقد حدث خلال الشهور الأخيرة في حياته أن سافرت لمدة أسبوع إلى الفلبين، ووجدت «عمر» يتصل بى ليقول إنه يشعر بالوحدة، وبعدها علمت أن العاملين بالفندق هم مَن قاموا بالاتصال بى لأنهم وجدوه يكرر اسمى مرارًا وتكرارًا.

وأتذكر أنه عند وفاة الفنانة فاتن حمامة نشرت الصحف أخبارًا لا أعلم من أين أتوا بها مفادها أن عمر الشريف حزن كثيرًا على رحيلها والعديد من القصص التي لم تحدث أصلًا!، فلقد أخبرت «عمر» بوفاة فاتن حمامة، فسألنى: مَن تكون؟، فقلت له: فاتن أم طارق، فرد علىَّ: طارق أخى؟!. كانت إقامة «عمر» بالفندق سببًا في العديد من المشاكل مع العاملين هناك بسبب ظروفه الصحية، ولذلك قام «طارق» بنقله إلى فندق آخر يديره إنسان غاية في الاحترام والرقى.

كان أول لقاء لى بـ«عمر» منذ سنوات بعيدة عندما تعاقدت معه شركة LBS لعمل فيلم على الهواء مباشرة من أهرامات الجيزة، وللأسف استطاع أحد المهاجرين المصريين الحصول على عقد يمنحه الحق الحصرى لعمل أي فيلم عن الأهرامات خلال شهر يوليو، وكذلك كان قد حصل على عقد من التليفزيون ليكون صاحب الحق الحصرى في البث المباشر!، وبالفعل رفضت الشركة المتعاقدة مع عمر الشريف التعامل مع هذا الشخص، الذي بدأ في نشر الأكاذيب عنها لابتزازها، وقد روج شائعات مفادها أن الشركة قامت بعمل أفلام عن القمامة في مصر!، وتلك كانت شركة CBS، ولكن للأسف لم يفرق أحد ما بين الشركتين. وخرجت الشركة من مصر، وقامت بعمل الفيلم وإذاaعته من قلعة اللورد كارنارفون، ممول مقبرة توت عنخ آمون، من إنجلترا وليس من مصر. واستطاع الراحل العظيم، وزير السياحة المصرى في ذلك الوقت، فؤاد سلطان، إقناع التليفزيون المصرى وهيئة الآثار بالجريمة التي قام بها هذا المهاجر المصرى. لم أستطع السفر في ذلك الوقت إلى قلعة اللورد كارنارفون لوجود آثار مسروقة بها، ولكن جمعتنى لقاءات عديدة بعمر الشريف خلال تسجيل هذا العمل، ومنها مشهد يدور داخل حجرة الدفن الخاصة بالملك خوفو، وكان «عمر» يقف وبيده نسخة مقلدة من تمثال الملك خوفو الصغير يسألنى إذا كنت أؤمن بتناسخ الأرواح، فمَن من الفراعنة كنت أنا بالماضى؟، وبالطبع قلت له: الملك خوفو.

بعد ذلك انقطعت صلتى بـ«عمر» لفترة حتى قررت الناشيونال جيوجرافيك عمل فيلم Max-I بالتقنية ثلاثية الأبعاد عن مصر، وكانوا يرغبون في قيامى بعمل السيناريو، وجاءت المنتجة ليزا تراوت لمقابلتى في لوس أنجلوس عندما كنت أقوم بتدريس الآثار هناك. وخلال المقابلة طلبت منها أن يقوم عمر الشريف بدور الجد الراوى بالفيلم، حيث كانت الأحداث تدور حول حفيدة تعيش بلندن، وجدّها يأخذها في جولة لزيارة آثار مصر من أسوان إلى القاهرة.

اتفقت «ليزا» بالفعل مع عمر الشريف، الذي وافق وحضرا إلى مصر، وكان هناك موعد على العشاء الساعة الثامنة مساء أحد الأيام، وحضر كل من «ليزا» و«عمر» قبل الموعد بربع الساعة، وقال لها: إن المصريين من عادتهم أن يأتوا متأخرين، وإنه يشك في أننى سوف أحضر في الموعد المحدد، بعدها بدقائق كنت قد وصلت، وقبل الموعد بخمس دقائق، ومن تلك اللحظة توطدت علاقتنا وأصبحنا أصدقاء. وخلال العشاء قال «عمر» إنه سوف يعمل بالفيلم دون أجر لعشقه لمصر. وقد فوجئت بأن ليزا تراوت ترفض عرض عمر الشريف، وتصر على أن يتقاضى أجرًا ويوقع على عقد. وعندما سألتها بعد ذلك عن السبب قالت إن «عمر» إذا لم يتقاضَ أجرًا فبالتالى له الحق في أن يأتى للتصوير أو لا يأتى حسب مزاجه الشخصى، وبالتالى يتسبب ذلك في خسارة كبيرة قد تتعدى قيمة ما يتقاضاه، والعكس إذا ما تقاضى أجرًا فهو سيلتزم بالمواعيد وبما يُطلب منه. تم تصوير الفيلم، الذي أصبح أهم فيلم في العالم، وتخطى عدد مَن شاهدوا الفيلم عدد مَن شاهدوا حرب النجوم.

كشف مرض عمر الشريف عن معادن مَن كانوا حوله، وكثير منهم كان يجرى خلفه، وهؤلاء لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء السؤال عنه في مرضه. وكان هناك فنانون لازموه ودعموه في محنة المرض، ومنهم يحيى الفخرانى ويسرا ولبلبة وساندرا نشأت.

سافرت و«عمر» كثيرًا إلى أمريكا وجمهورية الدومينيكان وغيرهما، وعشنا أيامًا جميلة مليئة بالأحداث المثيرة. كان ابنه «طارق» هو السند والمعين لـ«عمر» في أواخر أيامه.. وعندما اشتد بـ«عمر» المرض لم يكن أمام «طارق» سوى إدخاله إلى أحد المستشفيات، وكانت أيامًا شديدة الصعوبة والألم على النفس، وفى آخر زيارة لى لـ«عمر» أخبرنى الطبيب أنه لم يأكل أو يشرب منذ أيام، ويرفض المساعدة، عندها علمت أن كلمة النهاية لحياة فنان عظيم قد اقتربت، وتحدثت إلى «طارق» بأن يستعد لذلك اليوم، وبعدها بأيام فارقنا عمر الشريف، بعد أن غمرنا بكاريزمته وابتسامته الساحرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عمر الشريف عمر الشريف



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 04:38 2016 الأحد ,17 كانون الثاني / يناير

معتقدات متوارثة عن الفتاة السمراء

GMT 18:38 2017 الثلاثاء ,20 حزيران / يونيو

شاروخان يعيش في قصر فاخر في مدينة مانات الهندية

GMT 12:25 2012 الإثنين ,23 تموز / يوليو

إيطاليا، فرانكا سوزاني هي لي

GMT 11:25 2014 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

"عام غياب الأخلاق"

GMT 01:38 2019 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

فالفيردي يحشد قوته الضاربة لمواجهة "سوسيداد"

GMT 21:23 2018 الإثنين ,17 كانون الأول / ديسمبر

تفاصيل مُثيرة جديدة بشأن زواج "شابين" في المغرب

GMT 18:28 2018 الإثنين ,27 آب / أغسطس

جوجل تدعم أذرع تحكم "Xbox" على إصدار Android 9.0 Pie

GMT 13:34 2018 الإثنين ,19 شباط / فبراير

تأجيل النظر في قضية مغتصب الأطفال في فاس

GMT 07:40 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

علماء يبتكرون إبرة تصل إلى الدماغ لتنقيط الأدوية

GMT 17:20 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

"الحوت الأزرق" بريء من انتحار طفل في طنجة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca