الجيش المصرى العظيم

الدار البيضاء اليوم  -

الجيش المصرى العظيم

زاهي حواس
بقلم : زاهي حواس

إذا كنا نفتخر اليوم بعظمة وقوة جيش مصر، فذلك لأن ما حققه جيش مصر العظيم من انتصارات فى حرب أكتوبر العظيمة، وحماية مصر من قوى الظلام والشر فى 30 يونيو، سيظل محفورا فى سجلات التاريخ بأحرف من نور. وما زال الجيش يقدم الخير لمصر وشعبها فى كافة المجالات، لكى نحتفل جميعا بمولد الجمهورية الجديدة.

وعظمة جيش مصر الحالى هى امتداد لتاريخ عظيم للعسكرية المصرية منذ خمسة آلاف عام، فقد عاد قائد الجيش العظيم ونى من سيناء بعد حملة ردع وتأمين لطرق القوافل وصلت إلى حدود بلاد الشام وسوريا وقدم ونى تقريره للملك مرن رع من الأسرة السادسة، أى منذ أكثر من أربعة آلاف عام. وقد بدأ تقريره بقوله: «عاد الجيش سالما بعد أن قهر الأعداء وقتل منهم الكثير وأسر منهم أعدادا كبيرة.. عاد الجيش سالما بعد ما حطم حصون الأعداء وحصد رؤوسهم».

إن أعظم ما سجله قائد مصرى عن جيش مصر هو منظر مقبرة مير الشهيرة فى صعيد مصر، التى ترجع إلى أربعة آلاف سنة، ويؤرخ المنظر بمظاهر فض أول اعتصام مسلح فى تاريخ الإنسانية بواسطة الجيش المصرى!، المنظر يصور أعداء مصر يهددون أمنها ويعتدون على طرق التجارة وبعثات التعدين المتجهة إلى سيناء، وهؤلاء الأعداء قد اعتصموا داخل قلعتهم المدججة بالسلاح، عندما علموا بخروج الجيش لردعهم عن الأعمال العدائية ضد الدولة المصرية.

لم يعتصم الأعداء وحدهم داخل القلعة، بل استخدموا النساء والأطفال كدروع بشرية، ولأنهم يعلمون أن الجيش المصرى لا يقتلع زرعا من أرض، ولا يعتدى على شيخ أو طفل أو امرأة، وهذا كله مسجل ومعروف منذ أيام القائد ونى. المهم أن الأعداء رفضوا التسليم للجيش المصرى وفض اعتصامهم والامتناع عن أعمالهم العدائية، ولم يكن الجيش المصرى يحمل قنابل غاز أو أسلحة نارية أو أيا من الأدوات المستعملة فى فض الاعتصامات غير السلمية منذ أربعة آلاف سنة، وكان كل ما يحمله هو السهام والسيوف، بينما نصب الأعداء مجموعة من القناصة بسهامهم فى المواقع الاستراتيجية بأسوار القلعة، وذلك للقيام بقنص كل من يحاول الاقتراب من القلعة. فى هذا الموقف كان أسهل شىء يمكن تصوره هو قيام الجيش المصرى بإحراق القلعة بمن فيها، ويجبر المعتصمين بها على الخروج والنجاة بأرواحهم، ولكن ما نراه مصورا هو تكتيك مثير يعبر عن عقيدة جيش هو الأول فى تاريخ البشرية.

جنود مصريون يستهدفون قناصة الأعداء بالسهام متحصنين خلف دروعهم، بينما القناصة يتساقطون، ويأتى جنود آخرون بأقدم معدة عسكرية هجومية، أو هى عبارة عن برج خشبى يسير على عجل يستعمله الجنود فى الصعود من خلاله واقتحام القلعة تحت غطاء من وابل من سهام الجنود المصريين البواسل وباقتحام القلعة تتم السيطرة على الأعداء، ونرى أيضا زعيمهم يقوم من شدة الغضب بكسر قوسه وسهامه بقدمه، وآخر ينزع شعر رأسه من الغيظ. ووسط وطيس المعركة لا تجد امرأة أو طفلا مصابا، بل نجد جنديا مصريا يحمل طفلا على كتفه لإنقاذه. هذا هو جيش مصر.

وقد كتب حكيم الدولة القديمة إيبور محذرا من خطورة الإرهاب المحدق بالبلاد، مستغلا الظروف السياسية والاجتماعية ومخاطبا المصريين قائلا:

«احذروا فإن العدو داخل سيناء ينظر إلى ما يحدث فى مصر حتى يستطيع أن ينفذ مآربه ويعبث بأقدار البلاد». كان هذا منذ أكثر من أربعة آلاف عام، وذلك أثناء الثورة الاجتماعية الأولى التى حدثت فى أعقاب الدولة القديمة، ويقول إيبور شارحا حال البلاد إن الناس بدأت تسرق الأهرامات وإن السيدة التى كانت ترى وجهها فى ماء النهر أصبح لديها مرآة!.

ولا تزال بوابة مصر الشرقية التى نعرفها باسم سيناء مطمعا لأعداء مصر، ولا يزال المصريون يدافعون عنها ويفسدون خطط الأعداء الواحدة تلو الأخرى، وبذلك أصبح تاريخ الجيش المصرى يعادل تاريخ جيوش الأرض جميعا.

ولا يمكن أن ننسى أن هذا الجيش هو الذى حمى، ليس فقط الدولة المصرية على مدى خمسة آلاف عام، ولكنه هو الجيش الذى حمل عبئ الدفاع عن بلاد الشام كلها فى العصور القديمة.

كان مجرد ظهوره كفيلا بنزع فتيل الحروب والفتن بين ممالك ودويلات الشرق الأدنى القديم. حينما أقسم إخناتون بعصر الأسرة الثامنة عشرة على عدم الخروج خارج حدود مدينة الإله آتون بتل العمارنة. وأوقف خروج الجيش إلى ممالك الشام، فقد قام أحد أمراء الشام بإرسال رسالة إلى الملكة تى يقول فيها: «أيتها الملكة العظيمة أرجو أن تقنعى ابنك الملك امنحوتب الرابع بأن يرسل لنا الجيش المصرى لكى تهدأ الأوضاع فى بلادنا.. الممالك بدأت تتصارع مع بعضها البعض، والقوى بدأ يقهر الضعيف ويستولى على ما يملكه.. أرسلوا الجيش المصرى لكى يعود السلام».

جاءت لى فكرة هذا المقال عندما وقفت وبجوارى الدكتورة سحر سليم، أستاذ الأشعة المقطعية، بعد دراسة مومياء الملك سقنن رع، الذى قاد جيش مصر من طيبة وذهب لمحاربة الهكسوس، ولكنه سقط شهيدًا وطعنوه سبع طعنات فى أماكن مختلفة فى رأسه. وبعد ذلك استطاع أولاده وآخرهم الملك أحمس أن يطردهم خارج مصر وللأبد. ولكن دخول الهكسوس مصر جعل المصريين يعرفون أهمية سيناء، لذلك بدأوا إنشاء طريق حورس. وفى نفس الوقت وجدوا أن هناك ضرورة أيضًا لتأمين حدود مصر الجنوبية، لأن العدو من الهكسوس قد حاول أن يتحد مع ملك كوش ضد مصر.

وفى الدولة الوسطى، أى قبل دخول الهكسوس، لم يكن لمصر جيش نظامى، وكان ذلك نتيجة لما وصلت إليه مصر فى نهاية الدولة القديمة، لذلك كان لكل أمير مقاطعة فرقة من الجنود. ونعرف أن الجنود فى وقت السلم كانوا يعمرون البلاد ويشتركون فى الزراعة. وقد تدرب الجيش المصرى على فنون القتال بعد طرد الهكسوس وتذوقوا طعم القتال والنصر، وعرفنا قوة جيش مصر المدرب على مستوى عال من خلال الاستراتيجية العسكرية فى الحروب منذ عهد الملك تحتمس الثالث، الذى لقب بنابليون العصر القديم.

ومن أهم المعارك التى خاضها تلك المعركة التى حدثت فى السنة الثانية والعشرين من حكمه، عندما أقام معسكره على السفح الجنوبى للكرمل قبل معركة مجدو. وطلب حضور قواده للاجتماع داخل خيمته (مركز القيادة)، وطلب منهم المشورة فى طريقة الوصول إلى العدو وعرض البعض طريقا سهلا فى الناحية الجنوبية وآخر طريقا فى الشمال، ولكن تحتمس الثالث اقترح ضرورة مهاجمة ومباغتة العدو عن طريق ضيق وعر يؤدى إلى مجدو مباشرة ولم يتوقع العدو دخول الجيش المصرى من هذا الطريق. وقد اعترضوا على هذا الطريق، ولكن الملك أصر على رأيه وقال: «من يشأ منكم يتبع جلالتى» ولذلك قال القواد: «إنما كان الخادم وراء سيده».

وبدأ الجيش يسير فى هذا الطريق الضيق، وكان يتسع لسير حصان وراء حصان، وكان العدو فى انتظار الجيش المصرى على مداخل الطرق السهلة الموجودة فى الجنوب والشمال، ولكن وصل الجيش المصرى فى مفاجأة للعدو وحقق أعظم انتصار فى تاريخ العسكرية المصرية. وقاد تحتمس حوالى ستة عشر حملة عسكرية أخرى، واستطاع أن يقضى على قوة ملك قادش ولا تزال معركة مجدو تدّرس إلى الآن فى الأكاديميات العسكرية، وتظهر أهمية مباغتة العدو. ونعرف من خلال أحاديث الضباط والجنود أن العسكرية أعظم نعم الحياة، وكانوا يحملون أوسمة الشرف، ومنها ما يعرف باسم وسام الذبابة، وهو يرمز إلى المحارب الذى يتبع عدوه وينتصر عليه. وسطر التاريخ أن تحتمس الثالث هو أعظم قائد عسكرى فى التاريخ. وجاء ابنه الملك أمنحتب الثانى، وكان ذو شخصية قوية وشجاعة مثل أبيه، وكان يزهو بنفسه بأن أحدًا لم يكن يستطع أن يصل إلى قوته، وعندما ثار الأمراء السوريون بعد وفاة أبيه ذهب إليهم وأحرز انتصارًا عظيمًا لكى لا يعودوا إلى الثورة مرة أخرى. ولذلك اعتبر ملوك الدولة الحديثة، وخاصة الأسرة التاسعة عشرة، أن القتال فى العسكرية فضيلة طبيعية فى الحاكم.

ولدينا أنواع عديدة من الأسلحة التى كانت مستعملة، ومنها ما عثر عليه داخل مقبرة الملك أحمس، وقد عُثر داخل إحدى الآبار فى سقارة بجوار هرم الملك تتى أول ملوك الأسرة السادسة على بئر داخلها توابيت منها تابوت خاص بأحد قواد الجيش، وبجواره البلطة التى كان يستعملها فى الحروب.

وكان هناك مغالاة فى بعض الأحيان فى الإشادة بقوة الملك، وخاصة عندما يقولون إن الملك هو المقاتل الوحيد الذى يخترق صفوف الأعداء.. وكان الملك غالبًا يشترك فى القتال، ولدينا دليل أن الملك توت عنخ آمون، رغم المشاكل الصحية التى عانى منها، فقد اشترك فى معركة برفقة القائد حور محب فى سوريا. أما بخصوص حروب الملك رمسيس الثانى، والتى صورت بالتفصيل على معابد النوبة والأقصر والكرنك والرامسيوم، وخاصة معركة قادش الشهيرة، وقد عرفنا أن الملك رمسيس الثانى يشير فى تصوره لهذه المعركة إلى أن هناك معلومات وصلت إليه من أحد الجواسيس، لذلك سارع على رأس جيشه بالذهاب إلى مقاتلة العدو دون انتظار لوصول الفرق الأخرى، ولكن طريقة شرحه للمعركة تشير إلى أنه لم ينتصر فى هذه المعركة وتؤكد المصادر الحيثية أن الحيثيين هم الذين انتصروا فى هذه المعركة، ولكن بعد ذلك قاد رمسيس العديد من المعارك الأخرى التى انتصر فيها.

وبعد ذلك وجد قواد مصر والحيثيون ضرورة عمل اتفاق للسلام، ولذلك حدثت أول معاهدة سلام فى التاريخ بين مصر ومملكة خيتا، وظلت هذه الوثيقة سارية حتى أيام الملك مرنبتاح ابن الملك رمسيس الثانى، بل وتزوج رمسيس من إحدى أميرات الحيثيين، والمعاهدة كتبت على لوحة من الفضة ووضعت داخل عاصمة الرعامسة (برعمسو) فى الدلتا، ومعاهدة السلام بها بنود مثل تنظيم معاملة الفارين من الجانبين وتنص: إذا فر رجل أو رجلان أو ثلاثة من بلاد مصر وجاءوا إلى أمير خيتى العظيم فيقبض عليهم ويعمل على إعادتهم.

وكان الملك رمسيس الثالث هو آخر المحاربين العظام، فقد حارب ما يسمى بشعوب البحر مرتين، ويقال إن عدد القتلى قد وصل إلى ١٢٥٣٥ قتيلا، واستطاع أن ينقذ مصر من غزو شعوب البحر فى أول معركة بحرية ضخمة فى التاريخ العسكرى. كان الجيش المصرى ينقسم فرق تضم سرايا، وكل سرية لها اسم، وكان من الممكن تمييز الأقسام المختلفة للجيش من نوع الملابس، حيث كانوا يرتدون لباسًا قصيرًا، وقميصا للوقاية يصنع من الجلد أيضًا، وكانوا يضعون خوذة على الرأس، وكانت الأسلحة من الخناجر والسيوف والحراب، وكان الضباط يحملون ما يشبه البلطة، إضافة إلى الخناجر. وكان يصاحب الكتائب حملة الأعلام. وبالطبع كانت العجلة الحربية من أهم أسلحة الجيش المصرى فى الدولة الحديثة، وكانت المناصب العليا فى الجيش تتطلب تربية علمية.

هذا هو حال الجيش المصرى العظيم والانتصارات العظيمة التى تمت على يد المقاتل المصرى منذ أقدم العصور ودور الجندى المصرى فى السلم فى بناء الدولة المصرية

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجيش المصرى العظيم الجيش المصرى العظيم



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 04:38 2016 الأحد ,17 كانون الثاني / يناير

معتقدات متوارثة عن الفتاة السمراء

GMT 18:38 2017 الثلاثاء ,20 حزيران / يونيو

شاروخان يعيش في قصر فاخر في مدينة مانات الهندية

GMT 12:25 2012 الإثنين ,23 تموز / يوليو

إيطاليا، فرانكا سوزاني هي لي

GMT 11:25 2014 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

"عام غياب الأخلاق"

GMT 01:38 2019 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

فالفيردي يحشد قوته الضاربة لمواجهة "سوسيداد"

GMT 21:23 2018 الإثنين ,17 كانون الأول / ديسمبر

تفاصيل مُثيرة جديدة بشأن زواج "شابين" في المغرب

GMT 18:28 2018 الإثنين ,27 آب / أغسطس

جوجل تدعم أذرع تحكم "Xbox" على إصدار Android 9.0 Pie

GMT 13:34 2018 الإثنين ,19 شباط / فبراير

تأجيل النظر في قضية مغتصب الأطفال في فاس

GMT 07:40 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

علماء يبتكرون إبرة تصل إلى الدماغ لتنقيط الأدوية

GMT 17:20 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

"الحوت الأزرق" بريء من انتحار طفل في طنجة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca