هربًا من الحرب إلى خفة دم الفراعنة (٢)

الدار البيضاء اليوم  -

هربًا من الحرب إلى خفة دم الفراعنة ٢

زاهي حواس
بقلم : زاهي حواس

 

كان من المفترض بل والمخطط له أن يتم نشر هذا المقال منذ أسابيع مضت، إلحاقًا بالجزء الأول الذى تم نشره بتاريخ الثامن من شهر مارس الماضى، ولكن حالت الظروف والأحداث دون ذلك، ونعود اليوم لاستكمال ما بدأناه من قبل. وقد أكدنا فى المقال الأول أن روح الدعابة والفكاهة أو ما أطلق عليه المصريون مصطلح «خفة الدم، وأحيانًا قليلة خفة الظل» كان ولا يزال جزءًا أصيلًا من نسيج ومكونات الشخصية المصرية منذ أزمنتها الأولى وإلى الآن.

والغريب أن أجدادنا الفراعنة هم أول من كتب النكتة بأنواعها السياسية والاجتماعية. وهم أيضًا أول شعوب الأرض استخدامًا للنكتة للتعبير ونقض الأحوال السياسية والاجتماعية، ووصل الحال بالفراعنة وروحهم المرحة الخلّاقة إلى عدم الاكتفاء بالنكتة المكتوبة والمباشرة فقط، بل اخترعوا كذلك النكتة المصورة أو ما نعرفه الآن بفن الكاريكاتير! وقد وصل الفنان المصرى القديم إلى أسمى مراتب الإبداع فى هذا المجال وعرف استخدام الرموز للتورية والكناية وغيرهما، وذلك لنقض أوضاع مجتمعه السياسية والاجتماعية.

ولم تخل كذلك جدران مقابر الفراعنة من إبداعات فن الفكاهة، وهو أمر مثير للعجب، حيث يخيل لنا دائمًا أن المقابر يجب أن تكون بنايات كئيبة تحمل ظلمة الموت والفناء بين جنباتها، ولكن بالنسبة للفراعنة كانت جدران المقبرة مساحات إبداع شغلها الفنان المصرى القديم بمناظر تشع بالحياة والبهجة وتبعث الأمل فى حياة أخرى أبدية سعيدة للمتوفى مع من يحب من عائلته وأصدقائه. ولم يجد الفنان الفرعونى غضاضة فى كتابة النكات اللاذعة وتصوير مناظر فكاهية على جدران المقبرة، إما عن قرار اتخذه هو بنفسه ووافق عليه صاحب المقبرة، أو بأوامر مباشرة من صاحب المقبرة شخصيًا.

فهذا فنان يسخر من هيئة رئيس العمال أو رئيس الفنانين، فيصوره سمينًا مكتنزًا اللحم والشحم، حتى صار غير قادر على النهوض من مكانه فاستسلم للجلوس، وتسابق الخدم على إحضار الطعام والشراب إليه. ومنظر آخر يصوّر فتى يجرى مسرعًا ناحية راعى البقر الذى يقوم بحلب بقرة، وقد أمسك الفتى بإناء يطلب من الراعى أن يملأه له باللبن قائلًا: «أسرع قبل أن يرانا صاحب البقر».

ويصوّر منظرًا بديعًا للسوق المصرية فى زمن الدولة القديمة وعصر بناة الأهرامات، وقد انتهز صبى صغير مشاغب انشغال بائع التين بالبيع، فقام بسرقة ثمرة من بضاعة الرجل، ولسوء حظه رآه قرد فانقض على ساق الفتى الذى أخذ يستغيث بصاحب القرد، مطالبا إياه بإنقاذه من القرد. فهل قصد الفنان أن القرد أكثر خلقًا وأدبًا من الفتى السارق؟ وأن القرد يعرف أن السرقة لا تجوز وأن ما ارتكبه الصبى يستحق العقاب عليه؟ أم تراه يسخر من قرداتى أحسن تربية قرد، بينما هناك من لم يحسنوا تربية أولادهم؟ ليس من المهم معرفة قصد الفنان، بل المهم استشعار تلك الروح الخلاقة التى تطوق دائمًا إلى البهجة والسعادة.

وصل إلينا مئات من أعمال الكاريكاتير المصورة على قطع من الحجر الجيرى وكسرات الفخار، بل وعلى أوراق البردى كذلك، تصف وتسخر من الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالمجتمع المصرى القديم. ومن أطرف أعمال الكاريكاتير الفرعونى منظر يعود إلى عصر الانتقال الثالث عندما حكم الأجانب مصر واختلت الأوضاع التى عبر عنها الفنان بتصوير مجموعة من الفئران القوية الفتية وقد كونت جيشًا وارتدى ملابس الجند وحملت الأسلحة وهى تقوم بالهجوم على حصن منيع للقطط المرتعدة خوفًا من الفئران التى ترميها بالسهام.

وتقوم بتحطيم الحصن بالدروع والبلط، بل إن الجنود الفئران قاموا بإحضار سلم للصعود عليه ودخول الحصن، وذلك تحت قيادة زعيمهم المغوار، وهو فأر كبير على عجلته الحربية التى يجرها كلبان! بينما صورت القطط داخل الحصن وهى مذعورة تموت رعبًا وهى لا تعرف كيف تصد هجوم هذا الجيش. المعنى من وراء هذا الكاريكاتير واضح، وهو أن مصر القوية عندما تضعف يطمع فيها العدو الجبان وتستأسد عليها الجرذان، وتنقلب الأوضاع فيصبح العزيز ذليلًا والوضيع جريئًا.

وعلى هذا نرى أن هذا الكاريكاتير قد عبر حدود الحدث المعين والتاريخ المحدد ليصير عنوانًا على تلك الأوضاع فى كل الأزمان المتعاقبة على مصر. ولتأكيد المعنى نرى على قطعة أوستراكا (قطعة من الحجر الجيرى) فأرًا سمينًا منعمًا يرتدى الثمين من الثياب الكتانية، ويجلس على كرسى وثير، بينما يقوم على خدمته قط هزيل يقدم له شرابًا، يتناوله الفأر عن طريق ماصة (شاليمو) من البوص، لكى لا يرهق الفأر نفسه بحمل الكأس بيديه! وبطبيعة الحال كان الكاريكاتير السياسى أداة مهمة للمطالبة بتغيير الأوضاع، وطرد المحتل وعودة مصر لوضعها الطبيعى بلدًا يقود ولا ينقاد.

وعن تولى من لا يستحق للمناصب، وإسناد الأمر لغير أهله، صور الفنان الفرعونى قطًا ثمينًا يرعى قطيعًا من الأوز، وهو ما يذكرنا بالمثل الشعبى الدارج «مسكوا القط مفتاح الكرار ـ أى بيت الخزين».

وفى كاريكاتير آخر، صور الفنان الفرعونى ثعلبًا ماكرًا يقوم برعى قطيع من الأوز ويعزف لها على الناى ليسحرها. وفى كاريكاتير ظريف نجد حارسا على مخزن حبوب وقد راح فى سبات عميق تاركًا باب صومعة الغلال مفتوحًا وكأنه يدعو السارقين لسرقته. وكان هذا عنوانًا على الإهمال واللامبالاة التى انتشرت فى مجتمع بدأ يتكاسل عن العمل والإنتاج.

وعندما ساءت أحوال المجتمع المصرى تحت سيطرة الغزاة الأجانب، صوّر الفنان رسمًا كاريكاتيريًا لفأرة دميمة منعمة (أميرة أجنبية)، تقوم على خدمتها ووضع زينتها خادمة كانت يومًا أميرة مصرية. وكاريكاتير آخر يصور الفأرة المتصابية تلك وهى فى كامل زينتها تشرب خمرًا وبيدها تفاحة وتستعد لالتهام أوزة مشوية تقدمها لها قطة هزيلة من شدة الجوع. وفى كاريكاتير آخر، صور الفنان فأرًا كناية عن الحاكم الأجنبى وهو يعطى أوامره لقط ليقوم بتأديب شاب مصرى بضربه بالعصا على ظهره.

وللتعبير عن تغير الأحوال واختلال الموازين، نجد اثنين من الجديان يجلسان متقابلين وبينهما رقعة الشطرنج وقد راحا يتنافسان فى اللعب؛ ومنظر يصور حمارا وقد استولى على كرسى القضاء ليحاكم الناس ويفصل بينهم، وحاجبه ثور قوى، بينما المتهم قط مصرى أصيل. بالفعل كانت الفكاهة عند المصرى القديم تتجلى فى أبهى صورها فى أوقات الشدة والعسرة.. فعندما نخر الكسل والتواكل فى المجتمع المصرى القديم الذى عُرف بقوة العزيمة والعمل المبدع، صور فنان عبقرى من أجدادنا الفراعنة فرس نهر مكتنزًا نسى طبيعته ومكانته بين أقرانه، وراح يتسلق شجرة لا لشىء سوى ليستولى على عش طائر بائس.

ليس هذا فقط، بل إن هذا الطائر، وهو يشبه الغراب، بدلًا من أن نراه محلقًا فى السماء بجناحيه لينقض على فرس النهر، لكى يحمى عشه؛ نجده على غير المتوقع يحضر سلما لكى يصعد عليه حيث مكان فرس النهر والعش لكى يثنيه عن فعله! وبالمثل نجد تصويرًا آخر لمركب ملكى لا يليق إلا بأمير أو ملك، بينما الجالس على ظهر المركب ما هو إلا حمار سعيد الحظ، ساعدته ظروف المجتمع المتردية إلى الترقى حتى صار من الأعيان الذين يمتلكون المراكب.

هكذا عبر الفنان الفرعونى عن تغير أحوال المجتمع وتخليه عن قيمه وتقاليده. ولا تزال الأمثال المصرية تعبر عن نفس روح الفكاهة عند الفراعنة، فمثلًا يقول المثل الشعبى «لما الحال يتبدل القرد يطبل»، وكأن من قال هذا المثل الشعبى قد رأى ما رسمه الفنان الفرعونى من كاريكاتير معبر عن تغير الأحوال وانقلاب الموازين فى المجتمع، فنرى قردًا واقفًا ينقر على طبلة، بينما القرداتى أخذ يتمايل ويرقص بعدما أخذ مكان القرد.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هربًا من الحرب إلى خفة دم الفراعنة ٢ هربًا من الحرب إلى خفة دم الفراعنة ٢



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 15:10 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

رئيس الرجاء يحاول اقتناص لاعبين أحرار بدون تعاقد

GMT 05:33 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن موقع هبوط يوليوس قيصر لغزو بريطانيا

GMT 09:33 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

عهد التميمي

GMT 10:19 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الروسي يعلن وصول أول كتيبة من سورية إلى موسكو

GMT 11:50 2016 الثلاثاء ,20 أيلول / سبتمبر

مقتل 4 من عناصر "بي كا كا" في قصف تركي شمالي العراق

GMT 06:09 2017 الجمعة ,01 كانون الأول / ديسمبر

8 معلومات مهمة عن "جسر العمالقة" تزيد الفضول لزيارته

GMT 17:21 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مدرب الأرجنتين يعلن عن تشكيلته لمواجهة البرازيل

GMT 00:21 2016 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

صحيفة بريطانية تكشف أفضل 10 فنادق في مدينة روما

GMT 22:46 2017 الخميس ,28 أيلول / سبتمبر

حسن الفد يعيد شخصية كبور من خلال عرضه " سكيتش"

GMT 16:29 2017 الثلاثاء ,03 كانون الثاني / يناير

2016 عام حافل بالأنشطة والعروض في الدار العراقية للأزياء

GMT 04:38 2015 الثلاثاء ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مرضٌ خطير يصيب الأبقار ويعزل عشرات القرى في سطات

GMT 21:21 2015 الأربعاء ,11 آذار/ مارس

وفاة الممثل المسرحي المغربي إدريس الفيلالي

GMT 00:11 2017 الجمعة ,13 تشرين الأول / أكتوبر

تحف فنية من الزخارف الإسلامية على ورق الموز في الأردن

GMT 23:14 2016 الإثنين ,25 إبريل / نيسان

ماهي فوائد نبتة الخزامى ( اللافندر )؟

GMT 00:00 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

Velvet Orchid Lumière Tom Ford عطر المرأة الرومانسية

GMT 20:32 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

حيوانات الرنة مهددة بالانقراض بسبب تغير المناخ
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca