حجر رشيد بالمتحف المصرى

الدار البيضاء اليوم  -

حجر رشيد بالمتحف المصرى

زاهي حواس
بقلم : زاهي حواس

 يعرف العالم كله أن حجر رشيد موجود بالمتحف البريطانى، ولكن أقول إن المتحف المصرى توجد به أربعة أحجار مثل حجر رشيد تمامًا. وأعتقد أن هناك ضرورة لأن يعرض د. خالد العنانى، وزير السياحة والآثار، هذه الكنوز بمدخل المتحف المصرى.

وقبل أن أقدم لكم وصفًا لهذه الأحجار، وأيضًا كيف خرج حجر رشيد من مصر، دعونى أقص عليكم حكاية ظريفة. كان قد تمت دعوتى من قِبَل المتحف البريطانى إلى إلقاء محاضرة عن اكتشافاتى الأثرية، وقد امتلأت القاعة الأولى بالحضور، وفتحوا قاعة ثانية لتمكين الناس من مشاهدة المحاضرة عبر الفيديو؛ وكان هناك العديد من الصحفيين، وخاصة لأن المتحف قد أعلن أننى سوف أعلن عن اكتشافات أثرية جديدة. وبعد انتهاء المحاضرة، قام مدير المتحف بدعوة حوالى مائة شخص على العشاء، ومنهم السفير المصرى، عادل الجزار، رحمه الله. كان العشاء داخل المتحف البريطانى، وفى القاعة التى تعرض كنوزًا من حضارتنا الفرعونية. وبعد تناول المدعوين طعام العشاء، قام مدير المتحف بإلقاء خطبة للترحيب، وطلب منى أن أتكلم بعد ذلك، وقلت بالحرف الواحد: «إننى الوحيد الذى يتكلم مع الفراعنة، وأثناء تناولى العشاء معكم جاءنى الملك رمسيس الثانى، وقال لى: زاهى.. إننى أعيش هنا فى لندن منذ أكثر من مائة عام، وقد تملّكنى الملل من البرد، ومن بُعدى عن مصر، أرجوك حاول أن تأخذنى معك إلى مصر، وبعد ذلك جاء لى الملك تحتمس الثالث- أعظم ملوك مصر المحاربين على الإطلاق- وقال لى نفس الكلام الذى قاله لى الملك رمسيس الثانى، ولكن المفاجأة أن رمسيس وتحتمس عادا معًا ليقولا لى: لقد غيرنا رأينا، واتفقنا أنه من الأولى أن تُعيد معك حجر رشيد إلى مصر لأنه أيقونة الكشف عن أسرار الحضارة المصرية العظيمة».

لقد طلبت عودة حجر رشيد إلى مصر بطريقة دبلوماسية وبالمزاح، ولكن الصحافة الإنجليزية فى اليوم التالى، وعلى صدر الصفحات الأولى، كتبت أننى أطالب بعودة حجر رشيد إلى مصر. وفى ذلك الوقت كانت هناك هزة فى العالم كله، بعد أن طلبت من المتاحف الأجنبية عودة خمس قطع إلى مصر عن طريق الإعارة للعرض بالمتحف المصرى الكبير، الذى كان من المقرر افتتاحه فى عام 2015. وهذه القطع الخمس هى رأس نفرتيتى بمتحف برلين، وحجر رشيد بالمتحف البريطانى، وتمثال حم إيونو، مهندس الهرم الأكبر بمتحف هيلدسهايم، وحجر الزودياك المنزوع من سقف معبد دندرة بمتحف اللوفر، وتمثال عنخ حاف، المهندس المعمارى الذى أنهى العمل بالهرم الأكبر. ولكن للأسف، رفضت هذه المتاحف فكرة الإعارة، بل أعلن مدير متحف برلين قائلًا: ما الضمانات إذا أرسلت نفرتيتى إلى مصر، وقامت مظاهرات تطلب عدم عودة الملكة؟، ويومها قلت ردًّا عليه: إننا لسنا قراصنة البحر الكاريبى، إننا إذا وقّعنا اتفاقية نحترم توقيعنا. ولذلك أعلنت وقلت: كيف نعطى معارض بالمجان لهذه المتاحف؟، وكيف نتركهم يقومون بالحفر فى مواقعنا الأثرية؟، وهذه الآثار التى لديهم هى مِلْك لنا، ويرفضون الإعارة أو المشاركة فى افتتاح أهم متحف للآثار فى العالم؟!، ولذا أعلنت وقلت:

I will make their lives Miserable «سوف أجعل حياتهم بائسة». وبالفعل قد تم ذلك، وهذا كان السبب فى اختيارى واحدًا من أهم مائة شخصية مؤثرة عن طريق مجلة التايمز الأمريكية عام ٢٠٠٦.

أما عن أحجار رشيد الأربعة الموجودة بالمتحف المصرى، فهى أيضًا عبارة عن مراسيم تعود إلى عصر الملك بطليموس الثالث، أى قبل حجر رشيد، الذى يعود إلى عصر الملك بطليموس الخامس.

والحجر الأول عُثر عليه عام ١٨٦٦، أى بعد العثور على حجر رشيد، ومُسطَّر عليه ٣٧ سطرًا هيروغليفيًّا و٣٧ سطرًا يونانيًّا، وقد اختفى النص الديموطيقى لأن اللوحة مكسورة، وقد تم تنصيب هذه اللوحة بمعبد تانيس، ولا توجد مناظر على هذه اللوحة، ما عدا المنظر العلوى من اللوحة، الذى يمثل قرص الشمس المُجنَّح.

الحجر الثانى عُثر عليه عام ١٨٨١، بمنطقة كوم الحصن، وهو من الحجر الجيرى، ويحوى ٢٦ سطرًا هيروغليفيًّا و٢٠ سطرًا ديموطيقيًّا و٦٤ سطرًا يونانيًّا، ويحمل نص مرسوم صادر من الملك بطليموس الثالث وأرسينوى، كما يضم المرسوم أكثر التقويمات الشمسية دقة فى العالم القديم، والتى تقسم السنة إلى ٣٦٥ يومًا وربع اليوم، ويمجد المرسوم الراحلة الأميرة برينيكى.

أما الحجر الثالث فقد عُثر عليه عام ٢٠٠٢، بمنطقة المحاجر بالخازندارية بمحافظة سوهاج، ويعود أيضًا إلى عصر الملك بطليموس الثالث، وعليه ٢١ سطرًا هيروغليفيًّا و١٧ سطرًا ديموطيقيًّا، وأسفل الحجر نص يذكر أنه سيتم استكماله باللغة اليونانية، ويحتوى المرسوم على معلومات سياسية تتضمن صراعات حكام سوريا واليونانيين.

أما المرسوم أو الحجر الرابع والأخير فقد عُثر عليه عام ٢٠٠٤ بحفائر البعثة المصرية الألمانية بتل بسطة، والحجر منقوشة عليه كتابات بالخطوط الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية. وقد فُقد الجزء الهيروغليفى، والأجزاء المتبقية تحتوى على النصين الديموطيقى واليونانى، ويعود إلى عام ٢٣٨ قبل الميلاد، ويحمل نص مرسوم صادر عن الملك بطليموس الثالث تمجيدًا للأميرة بيرينكى ابنته.

أما لماذا حظى حجر رشيد بهذه الشهرة الواسعة، فذلك لأن حجر رشيد عُثر عليه قبل أن يُعثر على الأحجار الأربعة السابق ذكرها، حيث عُثر عليه عام ١٧٩٩م، بمدينة رشيد. وعليه نص باليونانية، وترجمته بالمصرية القديمة بالخطين الهيروغليفى والديموطيقى. وترجع أهمية الحجر إلى كونه سببًا فى حل لغز اللغة المصرية القديمة، فقد استطاع شامبليون أن يفوز بهذا السبق.

يبدو أن المتحف البريطانى لم يكن يعرف قيمة وأهمية هذا الحجر، لذلك فقد كان معروضًا فى منطقة مظلمة لا يراه أحد، ولكن بعد طلب استعادة الحجر قاموا بوضعه فى مكان بارز بالقاعة.

عثر على حجر رشيد الضابط الفرنسى بوشار أثناء عمل تحصينات عسكرية لقلعة قايتباى برشيد. ويصل ارتفاع الحجر إلى متر وعرضه ٧٣ سم، وقد أُرسل إلى المجمع العلمى، وقال إنه وضع يده على كنز ثمين، ومن المعروف أن نابليون بونابرت قد أصدر مرسومًا فى ٢٢ أغسطس عام ١٧٩٨ بتأسيس المجمع العلمى المصرى أسوة بالمجمع العلمى الفرنسى. وقد قام الضابط المسؤول فى ذلك الوقت، المدعو مينو، الذى أعلن إسلامه، وتزوج من «زبيدة»، ابنة محمد البواب، أحد أعيان رشيد، بنقل الحجر إلى المجمع العلمى، ورافقه بوشار. وفى ١٥ سبتمبر نشرت صحيفة (كوبرييه دى إيجيبت) أن هذا الحجر قد بعث الأمل فى حل رموز الهيروغليفية. وبعد بونابرت وكليبر، تولى القيادة مينو، الذى أجبره الإنجليز على تسليم الحجر إليهم.

رغم عناد وإصرار أعضاء المجمع العلمى على عدم تسليمه، لكن طبقًا لمعاهدة الإسكندرية، أصبح الحجر وآثار أخرى بالمتحف البريطانى، ولكن الفرنسيين قاموا بعمل نسخة من الحجر، وجاء شامبليون الذى وُلد فى مقاطعة تيجاك بفرنسا فى ٢٣ ديسمبر ١٧٩٠، ولم يستطع فى البداية أن يلتحق بالمدارس، لذلك تلقى دروسًا فى اللغة اللاتينية واليونانية، وذلك فى أعقاب الثورة الفرنسية، وبعد ذلك التحق بالثانوية فى جرينوبل، واهتم بدراسة اللغات (القبطية والعربية والكلدانية والسريانية). وجاءت نسخة حجر رشيد إلى شامبليون، ومن البداية استعمل اللغة القبطية، التى كانت مستعملة فى الفن فقط، وهى البداية فى معرفة أسرار هذه الكتابة الغريبة، ومن المعروف أن اللغة القبطية قد نقلت اللغة المصرية القديمة من الكتابة التصويرية إلى الكتابة بأبجدية لغوية.

وظل يبحث ويدقق، واستطاع شامبليون أن يقارن حروف اسم كليوباترا وحروف اسم بطليموس، ولاحظ اشتراك الاسمين فى خمسة أصوات، وأن حرف اللام عبارة عن رسم لأسد، والأسد فى القبطية هو (لابو)، ولاحظ غياب صورة النسر فى مكان حرف الألف. والنسر بالقبطية (أخوم). أما صورة الفم، وهو بالقبطية (رو) تقوم مقام حرف الراء فى كليوباترا. ومن العجيب أن شامبليون لم يرَ الحجر الأصلى فى حياته، بل تعامل مع النسخة التى وصلت إليه.

وبعد ذلك زار مصر، وظل بها مدة ١٨ شهرًا، واكتشف العديد من المواقع الأثرية، التى يُقال إنها وصلت إلى ٥٠ موقعًا، ونشر هذه المواقع فى ستة مجلدات بعنوان «مصر والنوبة». ومن ضمن أقواله:

«أخيرًا، سمح لى آمون العظيم بتوديع أرضه المقدسة. سأغادر مصر فى الثانى أو الثالث من ديسمبر، بعد أن غمرنى أهلها القدامى والمعاصرون بكل جميل ومعروف». وقد كتب إلى أخيه الأكبر يقول: «إن كيانى كله لمصر، وهى لى كل شىء»، وقد مات بالشلل، فى ٦ مارس ١٨٣٢، وهو فى سن ٤٢ عامًا، أى مات فى سن مبكرة، ولكنه يُعتبر مؤسِّس علم المصريات لأنه فك شفرة الكتابة الهيروغليفية عام ١٨٢٢م، ويُقال إنه ذهب إلى مكتب أخيه، وهو يصرخ ويقول: «لقد حصلت عليه!»، ثم أُغمى عليه لمدة خمسة أيام.

وعندما ذهبت لحضور مؤتمر المصريات فى مدينة جرينوبل، وكان معى العديد من العلماء المصريين، ومنهم الراحلة العظيمة د. شافية بدير، وعرفت وقتها أن المدينة التى عاش بها شامبليون تبعد قليلًا عن جرينوبل، طلبت زيارتها، ودخلت المنزل الذى عاش فيه شامبليون، ودخلت حجرة مكتبه، وجلست على الكرسى الذى جلس عليه وهو يقوم بأهم كشف أثرى.

لقد حاول الكثيرون من قبل شامبليون ومن بعده إرساء قواعد هذه اللغة، وهناك العديد من العلماء فى كل مكان بالعالم الذين يؤلفون الكتب والمقالات العلمية لتفسير العديد من القواعد اللغوية الغامضة، وقد أصبحت الهيروغليفية الآن من الكتابات التى لا يوجد بها أى غموض. وقد لعب العالِم البريطانى توماس يونج دورًا مهمًّا فى الوصول إلى معلومات عن اللغة، وقد كان بارعًا فى اللغة اليونانية، وحاول بشكل منهجى مطابقة كل رمز، وقارن الرموز الهيروغليفية مع تلك الرموز الموجودة على التماثيل، وكان بارعًا أيضًا فى تحديد العلامات الصوتية التى تمثلها بعض الحروف المرسومة، وأيضًا معرفة بعض الأحرف.

أكتب هذا المقال بمناسبة الاحتفال الذى سوف تنظمه وزارة الآثار بمرور مائتى عام على اكتشاف اللغة المصرية القديمة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حجر رشيد بالمتحف المصرى حجر رشيد بالمتحف المصرى



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 04:38 2016 الأحد ,17 كانون الثاني / يناير

معتقدات متوارثة عن الفتاة السمراء

GMT 18:38 2017 الثلاثاء ,20 حزيران / يونيو

شاروخان يعيش في قصر فاخر في مدينة مانات الهندية

GMT 12:25 2012 الإثنين ,23 تموز / يوليو

إيطاليا، فرانكا سوزاني هي لي

GMT 11:25 2014 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

"عام غياب الأخلاق"

GMT 01:38 2019 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

فالفيردي يحشد قوته الضاربة لمواجهة "سوسيداد"

GMT 21:23 2018 الإثنين ,17 كانون الأول / ديسمبر

تفاصيل مُثيرة جديدة بشأن زواج "شابين" في المغرب

GMT 18:28 2018 الإثنين ,27 آب / أغسطس

جوجل تدعم أذرع تحكم "Xbox" على إصدار Android 9.0 Pie

GMT 13:34 2018 الإثنين ,19 شباط / فبراير

تأجيل النظر في قضية مغتصب الأطفال في فاس

GMT 07:40 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

علماء يبتكرون إبرة تصل إلى الدماغ لتنقيط الأدوية

GMT 17:20 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

"الحوت الأزرق" بريء من انتحار طفل في طنجة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca