الرأسمالية المطلقة!

الدار البيضاء اليوم  -

الرأسمالية المطلقة

حسين شبكشي
حسين شبكشي

هل هناك ما يمكن أن نسميه ونطلق عليه وصف «الفساد المطلق للرأسمالية»؟ بعض الأحداث الأخيرة في عالم الأعمال تفتح المجال وبقوة غير مسبوقة لطرح هذه النوعية من الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها بموضوعية واستقلالية تامة. هناك «تنمر» تشريعي ضد عدد غير بسيط من الشركات الجديدة العملاقة، التي تعمل في مجالات الاقتصاد الرقمي الجديد المتنوعة. ففي الغرب عموماً وفي الولايات المتحدة تحديداً، هناك شعور بالقلق والخوف والشك والريبة لا يمكن تجاهله جراء الزيادة الواضحة في «التأثير والهيمنة» على صناعة توجهات الرأي العام، وخطورة ذلك الأمر في الدول الديمقراطية. فالشركات التقنية الكبرى، هي التي صنعت «إعلاماً موازياً» سُمي بالإعلام الرقمي الجديد، وأثرت بشكل ملحوظ وكبير على توجهات الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جاءت بباراك أوباما (أول من فطن لأهميتها مع الناخبين من جيل الألفية واستغلها انتخابياً بشكل مؤثر وفعال)، ومن بعده دونالد ترمب وداعميه خلال انتخابات 2016، التي فاجأت نتائجها الجميع.

المشكلة في التأثير المتزايد لهذه الشركات على الرأي العام ليس بالصورة البريئة الموضوعية، فهذه الشركات لها أهداف ومصالح تسعى لتعزيزها وحمايتها عن طريق ضمانة استمرارية تشريعات سياسية معينة. بمعنى آخر، ما كانت تمارسه الشركات الكبرى قديماً لحماية مصالحها عن طريق وسطاء محترفين يقبضون أتعاب نظير خدماتهم تحت مسمى قوى الضغط ليقنعوا المشرعين الدستوريين بوجهات نظرهم، أصبح اليوم يمارس بشكل مباشر على الرأي العام بأكمله ويوجه الناخب المقصود (بخوارزميات تعتمد على تقنيات مذهلة من الذكاء الصناعي) إلى تحقيق الأهداف المقصودة. وتحاول مؤسسات العلاقات العامة العملاقة التي تتولى الدفاع عن وجهات نظر شركات التقنية الكبرى تفسير هذا التطور التقني وعلاقته مع عامة الناس، بأنه أشبه بما وصفه الاقتصادي الاسكوتلندي الكبير آدم سميث في كتابه البالغ الأهمية «ثروات الأمم» (الذي يعتبره الاختصاصيون أم جميع الكتب الاقتصادية)، بيد السوق الخفية، بمعنى أنه تطور طبيعي للعلاقة بين الشركات والمعلومات ومتلقيها في ظل وجود عرض وطلب. وهذا تفسير أكاديمي جميل وبريء ولكنه غير دقيق أبداً. وهذا هو أحد أخطر وأهم الأسباب التي جعلت المشرعين في أوروبا والولايات المتحدة أن يقوموا بتحرك استجوابي استباقي مع كبار التنفيذيين في هذه الشركات العملاقة لمواجهتهم بهذه الهواجس المقلقة لهم.

كل هذا يبدو «مفهوماً» و«مقدراً» في الدول الديمقراطية التي تقدس دور دولة المؤسسات وتحترم جداً مبدأ الفصل بين السلطات لأن هذه الخطوات الاحترازية التي تقدم عليها السلطات التشريعية في الدول الغربية تصب في المجال الخاص نفسه بالحفاظ على الاستقلالية وحماية الحريات، ولكن يبقى الأمر لغزاً غامضاً ومريباً في محاولة تفسير ما يحصل مع مؤسس شركة «علي بابا» عملاق الاقتصاد الرقمي الجديد الصيني جاك ما، الذي تمت معاقبة شركته المالية الواعدة «مجموعة آنت» التي أقدمت الحكومة الصينية على طرح تشريعات أكثر صرامة لتنظيم عمل الشركات المالية مما تسبب في تأجيل الاكتتاب الأكبر في التاريخ المتعلق بـ«مجموعة آنت» الذي كان من المتوقع أن يفوق الـ35 مليار دولار في بورصتي هونغ كونغ وشانغهاي، وأدى ذلك إلى موقف حاد من قبل جاك ما بحق الجهات التشريعية، مما جعل السلطات الصينية «تفتح» تحقيقاً عميقاً عن الممارسات الاحتكارية للشركات الرقمية الكبرى، وعلى رأسها «علي بابا»، مما أدى إلى هبوط حاد تجاوز الـ8 في المائة في قيمة سهمها.

الموقف المتربص من الحكومات الرأسمالية إزاء الشركات التي تكبر «أكثر» من اللازم ليس بجديد، فلقد حصلت مواقف تفتيتية بحق شركات نفطية واتصالات ومصرفية من قبل في أميركا واليابان وغيرهما، ولكن الصين ذلك البلد الشيوعي الذي عادة يواجه الرأسمالية بالتأميم بأن يوحد إجراءاته بنفس توجه أعتى الدول الرأسمالية للحد من قوى ونفوذ شركات التقنية الكبرى، فهو أمر يدعو إلى الدهشة ويحتم الوقوف أمامه ملياً.

مقولة قرأتها وأفكر فيها بجدية قد يكون فيها شيء من الحكمة المنشودة: «الرأسمالية المطلقة مفسدة مطلقة» يصعب تحديدها وتعريفها، وهي تذكرني بواقعة مشهورة أقيمت من قبل إحدى الكنائس في ولاية كاليفورنيا ضد لاري فلينت أحد كبار ناشري المجلات الإباحية وهو يدافع عن نفسه بحجة حرية الرأي، فما كان من القاضي إلا أن قال «إنها إباحية»، فلما طلب محامي فلينت من القاضي تعريف الإباحية قال له: «لا أعرف، ولكني أدركها حين أراها»، والشيء نفسه يقال عن الرأسمالية المطلقة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرأسمالية المطلقة الرأسمالية المطلقة



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 15:53 2014 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد عقد "جان بوفون وجورجيو كليني"في يوفنتوس

GMT 00:05 2018 الأحد ,18 آذار/ مارس

فوائد نبات "القسط الهندي" على صحة الإنسان

GMT 16:05 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

فضل الشعبي يوضح سبب تنحي المبعوث الأممي لليمن

GMT 01:56 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

عطر Dylan Blue يمنح الرجل عطرًا أكثر جاذبية وسحرًا

GMT 11:32 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

فندق النوم في علب الصفيح في الدنمارك "Can Sleep Hotel"

GMT 05:20 2017 الجمعة ,08 كانون الأول / ديسمبر

فيصل السمرة يسلط الضوء على مسيرته الفنية المختلفة

GMT 10:28 2017 الجمعة ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

منزل سيلينا غوميز منتجع صغير يجمع بين الفخامة والرفاهية

GMT 15:49 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

PRADA تطرح تشكيلتها الجديدة للرجل المميّز لربيع وصيف 2018

GMT 11:00 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"السر المعلن"..

GMT 00:58 2015 الأربعاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

5 علامات تتعرف بها على الطفل المصاب بالتوحد

GMT 11:22 2015 الجمعة ,16 كانون الثاني / يناير

الجيش الروسي يتسلم 20 عربة مدرعة من طراز "تايفون"

GMT 15:25 2016 الأربعاء ,03 شباط / فبراير

جاستن بيبر يقضي سهرة مع فتاة مجهولة

GMT 02:50 2014 الأربعاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

الإصابة تبعد بدر الدين بنعاشور عن الملاعب لمدة شهرين
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca