روسيا وأوكرانيا: اللوم على التاريخ!

الدار البيضاء اليوم  -

روسيا وأوكرانيا اللوم على التاريخ

حسين شبكشي
بقلم : حسين شبكشي

هناك مقولة مشهورة جداً للأديب الروسي الأكثر شهرة ليو تولستوي في رائعته الخالدة رواية «الحرب والسلم»، التي يقول فيها إن أقوى المحاربين هم هذان الاثنان؛ الزمن والصبر.
تذكرت هذه المقولة الفلسفية التي يتداولها الروس، والتي أصبحت جزءاً من العقيدة التي تحكمهم وتحولت إلى حكمة يديرون بها أمورهم وشؤون حياتهم، تذكرتها وأنا أتابع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا أسبوعها الثالث بدون أن تحسم المعركة لصالح أي طرف من الأطراف، وحتماً وبشكل مؤكد طال أمد هذه الحرب بشكل أكثر مما كان يتوقعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه. وكما كان متوقعاً تناولت العديد من مراكز صناعة القرار والمحللين والأكاديميين أسباب ما حصل بين روسيا وأوكرانيا وعلى من تقع اللائمة بشكل رئيسي، تم تقديم العديد من النظريات والبراهين والأسباب، وفي الكثير من الأحيان كانت تتجه هذه الأسباب إلى لوم الولايات المتحدة بشكل رئيسي وحلف الأطلسي (الناتو) بشكل عام على تحمل المسؤولية الأساسية لما آلت إليه الأمور اليوم في الصراع الحاصل بين روسيا وأوكرانيا، وذلك بسبب توسع الحلف جغرافياً في المناطق التي كانت تقع تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي السابق وبالتالي النفوذ الروسي أيضاً، وهي مناطق جغرافية كانت تعتبرها روسيا جزءاً من مدار أمنها القومي غير المباشر.
ولكن هناك نظرية أخرى يجب التمعن فيها بشكل معمق، وهي نظرية التاريخ الروسي نفسه؛ فاليوم الكل يحلل في حقبة سقوط الاتحاد السوفياتي فقط، والضعف الذي كانت عليه الدولة الروسية بعد السقوط، ثم صعود نفوذها مع تولي الرئيس الحالي فلاديمير بوتين مقاليد الحكم فيها بعد مد نفوذه على المناطق المؤثرة حول العالم لبسط هيمنة سوفياتية الشكل روسية المظهر مجدداً.
إلا أن التاريخ الروسي القديم يؤكد لنا أن هذا تماماً هو النهج الروسي الساعي دوماً للتوسع المستمر وبسط النفوذ خارج حدود الجغرافيا التقليدية لروسيا التاريخية، وقد خاضت روسيا عبر السنوات المختلفة حروباً بدواعٍ دينية تارة ودواعٍ اقتصادية تارة أخرى ولأسباب سياسية تارات ثالثة، كان الغرض منها توسيع نطاق نفوذها الجغرافي وضم ما تستطيع ضمه من أراضٍ إليها، وكان أكبر دليل على صدق هذه المقولة ما قام به جوزيف ستالين نفسه خلال حقبة حكمه التوسعية، وبالتالي إذا علمنا التاريخ درساً أو شيئاً من الممكن الاستفادة منه، يعلمنا أن طباع الشعوب والأمم لا تتغير بسهولة، وأن الطبع التوسعي للعقيدة الروسية كان سيستمر في كل الأحوال، كما أثبتت لنا الأيام اقتطاعه أجزاءً من بولندا وجورجيا وأوكرانيا، بالإضافة لأقاليم أخرى داخل روسيا التاريخية نفسها لا تزال فيها شبهة الاحتلال.
روسيا تاريخياً لها حضارة عظيمة، حضارة تميزت بالأدب الرفيع والفنون الرائعة والإبداعات الإنسانية التي لا يمكن إغفالها، وهي منارة للعقيدة الكنسية الأرثوذكسية الشرقية، وهي هويتها التي تحرص على إبرازها، وبالتالي هي ليست جزءاً من الغرب، هي أرثوذكسية شرقية بامتياز. وهذا جزء من المعاناة التي لديها، فهي تريد أن تحظى بمكانة تستحق هذه الإمكانيات وتعكس هذا التاريخ، وعليه فإن روسيا اليوم هي قوة عظمى ولكنها ليست القوة العظمى، وهذا الموضوع حسم لصالح المعسكر الغربي منذ فترة ليست بالقصيرة، فبوتين وزمرته التي تحيط به حريصون على تغيير هذا الواقع في أقرب فرصة.
القراءة التاريخية لأحداث اليوم التي يتابعها العالم بشغف واهتمام، من المهم أن تحظى برؤية تاريخية دقيقة حتى نعرف كيف بدأت صغائر هذه الأمور وانطلقت حتى وصلت للصورة الكبيرة المعقدة التي تحدث أمام أعيننا هذه الأيام.
هناك عبارة رائعة الدلالة وبالغة الأهمية أوردها المؤلف الروسي الكبير دوستويفسكي في روايته المهمة «الإخوة الأعداء» أو كما تعرف تحديداً بالنص الروسي «الإخوة كرامازوف» التي يقول فيها الأهم هو ألا تكذب على نفسك، وهذه العبارة قد تختصر المشهد الذي يحصل اليوم فيما يخص تبريرات روسيا لغزوها لأوكرانيا وإبداء الأسباب ولوم الآخرين وتبرير الموقف وإغفال دور التاريخ في هذه المسألة المعقدة والبالغة الأهمية.
اليوم روسيا في وضع دقيق والمغامرة التي دخلت عليها في أوكرانيا كلفتها الكثير جداً من فقدان الهيبة العسكرية في ظل التأخر الكبير في حسم المعركة، وتقارير عن هروب مجندين من جيشها، واضطرارها للاستعانة بمقاتلين مرتزقة من دول أخرى، والحصار الاقتصادي الذي سيكبد الاقتصاد الروسي الضعيف خسائر فادحة، يؤكد لنا أن المغامرة التي أقدمت عليها روسيا كانت غير محسوبة وفيها محاولة بائسة لاعتماد نظريات أصولية وطنية في جغرافيا متغيرة. وإن نجحت روسيا في ذلك فإنها ستخلق سابقة تسمح لغيرها من الدول التي لديها الدعاوى ذاتها بالتقليد الأعمى لروسيا

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

روسيا وأوكرانيا اللوم على التاريخ روسيا وأوكرانيا اللوم على التاريخ



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 14:46 2018 الثلاثاء ,24 تموز / يوليو

دراسة تكشف عن 9 مهن تقود أصحابها للخيانة الزوجية

GMT 07:22 2018 الأربعاء ,31 كانون الثاني / يناير

"دي باريس" يحيي جناح أميرة موناكو بتجديدات فخمة

GMT 23:21 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

الملقب بـ"حبيلو" مُصنّف خطر في قبضة شرطة فاس‎

GMT 03:50 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

إغلاق صحيفة الأطفال الوحيدة في أستراليا لمشاكل مادية

GMT 04:41 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

"Nada G" للمجوهرات الثمينة تُعلن عن مجموعة "بلاط بيروت"

GMT 02:49 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

المغامرات التي يجب خوضها أثناء زيارة مملكة كامبوديا

GMT 15:11 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

الطالبي العلمي يؤكد أن ملعب البيضاء لن يكون جاهزًا قبل 2022

GMT 08:51 2017 الإثنين ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

سيدة هندية تبيع رضيعها من أجل دفع "فاتورة إدمان" زوجها

GMT 08:01 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مغارات "بني عاد" وجهة سياحية مفضلة خلال العطلة الشتوية

GMT 04:58 2015 السبت ,09 أيار / مايو

حجز 12600 لتر بنزين على متن شاحنة في صفرو

GMT 19:56 2016 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الداخلية الإسبانية تعلن عن تفكيك خلية متطرفة في مدينة سبتة

GMT 04:38 2016 الثلاثاء ,29 آذار/ مارس

مزادات "روزبيري" تفتتح عرضاً لبيع تحف هندية
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca