الشيّاح ـ برلين ـ الشيّاح

الدار البيضاء اليوم  -

الشيّاح ـ برلين ـ الشيّاح

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

من مواصفات نظام التزلّم اللبناني تصوير الزعيم كنصف إله. الذين يصوّرونه على هذا النحو هم أتباعه الذين يشدّهم إليه ولاء عصبيّ، طائفي في الغالب، معزّز بتنفيعات تتّخذ أشكالاً كثيرة أهمّها تأمين فرصة عمل في الإدارة. تكبر زعامة الزعيم، إذاً، كلّما زاد السطو على المال العامّ.
رئيس المجلس نبيه برّي ليس الوحيد الذي حظي ويحظى بهذه الصورة المنزّهة. سائر من يسمّونهم «الأقطاب السياسيين»، ممن يتزعّمون كتلاً في طوائفهم ومناطقهم، يشاركونه إيّاها.
مع هذا فبرّي قد يكون أكثر مَن حظي بعبارات تمجيديّة كهذه، والعبارات التي امتدحته ذهبت بعيداً جدّاً بحيث إن أي مؤمن قد يرى فيها كفراً صريحاً. مثلاً، من الشعارات والجُمل التي حملتها ملصقات التمجيد واحدة تقول: «لولا الهاء لكنتَ نبيّ»، وأخرى تعلن أنّ الطُّهر «يتوضّأ بين يديك»، وثالثة تستغيث: «يا ويلنا من بعدك»، ورابعة تندهش: «بالله عليك من أين أتيت؟»، وخامسة تهدّد وتتوعّد: «ويلكم إذا نفد صبره»...
مؤخّراً، مع إجراء الانتخابات العامّة في بلدان الاغتراب، صدّر لبنانيّون من أتباع برّي هذه «الثقافة» إلى ألمانيا. هكذا هتفوا:
«يا نبيه ارتاح ارتاح
برلين صارت شيّاح».
والشيّاح جزء شيعي من الضاحية الجنوبيّة في بيروت يحاذي الجزء المسيحي المعروف بعين الرمّانة. وكانت حرب السنتين (1975 – 1976) قد انطلقت من اشتباكات بين الشيّاح وعين الرمّانة، ما أنزل بهما تدميراً لا تزال بعض آثاره تشهد عليه. يومها تفرّد شبّان يساريّون بأن أخذتهم الحماسة للحرب في الشيّاح، وغنّى مطرب شيوعي أنّه سيزرع فيها «مليون أقحوانة». هؤلاء نظروا ولم يروا، أو أنّهم رأوا القتال الطائفي بين المنطقتين صراعاً يخوضه كادحوهما (الذين كانوا يقتل بعضهم البعض) ضدّ رأسمالييهما، فأنشدوا واثقين بالمستقبل:
«لاح العلم الأحمر لاح
بالرمّانه والشيّاح».
بالطبع، وكما في كلّ مكان آخر، لم تَلُحْ إلاّ أعلام أحزاب الطوائف، الخضراء منها والصفراء، ودائماً السوداء. الشيّاح كان نصيبها أعلام «حركة أمل» ومن بعدها «حزب الله» اللذين خاضا فيما بينهما إحدى أشرس الحروب اللبنانيّة في النصف الثاني من الثمانينات. الشيّاح كانت من مسارح تلك الحرب. وطبعاً ففي 2006 نالت الشيّاح حصتها من التدمير والقتل الإسرائيليين. أمّا الآن فهي بقعة من بقاع الضاحية الموصوفة بالصمود وردّ الصاع صاعين لقائمة طويلة من الأعداء.
على أي حال فشبّان «أمل» أصرّوا على جعل الشيّاح نموذجاً لمدينة برلين. أولم تتعرّض العاصمة الألمانيّة نفسها، بفعل الحرب العالميّة الثانية، إلى تدمير وإفقار أكبر بلا قياس مما تعرّضت لهما الشيّاح؟
لكنّ ألمانيا فارقت العنف قبل ثلاثة أرباع القرن، واستقرّت ديمقراطيّتها وصارت صاحبة الاقتصاد الأوروبي الأقوى، ثمّ توحّد شطراها قبل ثلث قرن. مع هذا أصرّ الشبّان اللبنانيون على هدايتها باعتناق نموذج الشيّاح. وهذا ميل ربّما كان طبيعيّاً يندرج في الخانة التي يندرج فيها ترويج المرء بضاعته. من هذا القبيل مثلاً أطلق شبّان سوريّون، مع انفجار موجة الفرار من الجحيم الأسدي واللجوء إلى ألمانيا، عدداً من النكات حول التعاطي مع المستشارة أنجيلا ميركل، مستمدّين نكاتهم من الثقافة السياسيّة في ظلّ الأسد. فميركل حاكمة «إلى الأبد»، وهي ستورّث نجلها حكم ألمانيا على غرار ما حصل عام 2000 في سوريّا.
الشبّان اللبنانيّون لم يمزحوا على غرار زملائهم السوريين. لقد بدوا جدّيين جدّاً في تصدير نموذجهم الذي يتربّع في صدارته الرئيس نبيه برّي. وليس من المبالغة أن يقال إن هؤلاء عبّروا بطريقتهم عن ميل عريض بدأ يستولي على الثقافة السياسيّة العربيّة منذ نصف قرن. فبعد أن كانت الشيّاح تطمح لأن تصير مثل برلين، صار على برلين أن تطمح لأن تصير مثل الشيّاح. وهذا إنّما كان انقلاباً متدرّجاً ومتصاعداً على الوجهة التي رأت النور مع رفاعة رافع الطهطاوي قبل أن يتعهدها مثقّفون وسياسيون وتربويّون فكّروا ببناء بلدانهم على مثال غربي وديمقراطيّ.
في هذه الغضون، انتقلت النزاعات السياسيّة مع بلدان الغرب إلى نزاعات ثقافيّة، وشُهّر بأولئك المثقّفين والسياسيين، وقُدّم الغرب بوصفه مصنعاً للمؤامرات والاحتلالات والنهب والعدوان، كما صُوّر جزء أساسي من الثقافة المعاصرة كغزو ثقافي واستشراق استعبادي ومضلّل.
مَن إذاً يريد أن يقلّد هؤلاء؟ من يريد أن يقلّد برلين التي توقّفت حربها وصارت تنظر إلى الحروب كشيء كريه، فيما الشيّاح صامدة على الدوام ومتأهّبة لا تنتظر إلاّ المعارك وملاحم المجد والبطولة. إنّ على برلين أن تقلّد الضاحية، لا العكس. إنّ على برلين أن تبحث عن نبيه برّي ما، أو بشّار أسد ما، تعبدهما كما تفعل الشيّاح.
بالزعيم المعبود جئناك يا برلين. افتحي ذراعيك.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشيّاح ـ برلين ـ الشيّاح الشيّاح ـ برلين ـ الشيّاح



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 09:15 2017 السبت ,23 أيلول / سبتمبر

طائرة أسرع من الصوت أحدث ابتكارات وكالة "ناسا"

GMT 11:56 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 05:27 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يدافع عن مور في انتخابات آلاباما رغم لاعتراضات

GMT 10:00 2017 الأحد ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ورشة عمل للمصور العالمي إليا لوكاردي في "إكسبوجر 2017"

GMT 01:32 2017 الأربعاء ,11 كانون الثاني / يناير

إيل فانينغ تطل بفستان مثير باللون الكريمي

GMT 01:53 2016 الخميس ,29 كانون الأول / ديسمبر

عمر عريوات يكشف عن رواج كبير لـ"إيبوكسي" في الجزائر

GMT 09:05 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعليم الصلاة للأطفال مسؤولية الأمهات

GMT 17:35 2015 الأربعاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

زايو "حظيرة" الصراع السياسي لمن يريدون مراكمة الثروات

GMT 03:28 2016 الأربعاء ,28 كانون الأول / ديسمبر

حنان بركاني تحتفل بطرح "خفايا متجلية"

GMT 03:55 2016 الثلاثاء ,12 كانون الثاني / يناير

سيارة الفئة E من "مرسيدس" في معرض ديترويت للسيارات

GMT 20:46 2018 الأربعاء ,29 آب / أغسطس

"أفتو فاز" توضح مواصفات سيارتها " Lada Vesta"

GMT 14:36 2018 الخميس ,26 تموز / يوليو

صدور ترجمة "علم اجتماع المعرفة" لعلي الوردي
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca