من محفوظ إلى رشدي

الدار البيضاء اليوم  -

من محفوظ إلى رشدي

بكر عويضة
بقلم - بكر عويضة

بوسع إيران التنصل من تحمل مسؤولية أن يحاول شاب لبناني قتل الروائي سلمان رشدي. ذلك حق مكفول لها وفق القانون الدولي. ضمن سياق كهذا، يمكن القول إن نفي ناصر كنعاني، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، أول من أمس (الاثنين)، أي علاقة لبلاده بما حدث في نيويورك يوم الجمعة الماضي، غير مفاجئ على الإطلاق، بل جائز الافتراض أنه متوقع أيضاً. الأمر الذي ليس بوسع حكام إيران التنصل من مسؤوليته، هو وجود تحريض رسمي يحمل صفة «فتوى» ممهورة بتوقيع الخميني، القائد الثوري المؤسس لأولى الجمهوريات الإيرانية، وفقاً لمفاهيم يعتقد بها بعض علماء الفكر الديني عند الشيعة، وهم يعطون أنفسهم مرتبة تميزهم عن غيرهم فيسبق أسماءهم وصف «آيات الله». تلك «الفتوى»، التي تصادف أنها صدرت في يوم يُحتفى فيه لدى شعوب مجتمعات الغرب المسيحي بإحياء ذكرى قديس يُدعى فالنتاين، سُمي هذا اليوم «عيد الحب»، أباحت إهدار دم مؤلف رواية «آيات شيطانية»، وخصصت مكافأة قدرها ثلاثة ملايين دولار، لمن ينجح في قتل سلمان رشدي حيثما كان على سطح كوكب الأرض. بالتأكيد، لن يُعقل أن ينفي ناصر كنعاني، أو غيره من مسؤولي الحكم الإيراني، واقعاً كهذا موثقاً دولياً منذ نهار الرابع عشر من فبراير (شباط) عام 1989. ترى، هل يجوز تصور أن وجود كلمة «آيات» على غلاف كتاب سلمان رشدي الصادر قبل «الفتوى» بعام، تقريباً، بدا كافياً لاستفزاز حاملي الصفة ذاتها، وبالتالي لأن يُستشاط غضب الخميني، فكان كل الذي كان؟

ربما، لكن، حتى لو صح مثل هذا التصور، لن يقلل ذلك من حقيقة أن سلمان رشدي تهوّر في أسلوب تصوير حقبة صدر الإسلام. صحيح، احترام حرية التعبير، حق يجب أن يُكفل للمبدع بأي مجال وزمان وفي كل مكان. في المقابل، عندما يقرر روائي ما، كاتب، شاعر، مسرحي، رسام، سينمائي، أو قل الفنان عموماً، التصدي لمفاهيم لها وضع المقدس في فهم أغلب عموم الناس، أو التناول الساخر من شخوص ذات رمز خاص في نصوص ليست تحتمل أي جدال عند الغالبية العظمى لأكثر من مليار إنسان، إذ ذاك على المتخذ القرار بتهوّر كهذا ألا يتوقع أن يقابل بالورود والرياحين. لن يستقيم مثل هذا التوقع على الإطلاق، حتى لو صح في نظر صاحبه، بل سيبقى في مستوى شطح الخيال، تماماً مثل الذي وضع من رواية أو رسم، قصيدة أو كتاب. ألم يواجه الأنبياء والرسل أنفسهم، ومن بعدهم المصلحون والفلاسفة، كثيراً من الأذى، والمشاق، والألم، لمجرد أنهم جاءوا بغير المعتاد في أزمانهم؟
بلى، إنما هل أن رفض أي محتوى، أو تأذي المشاعر، سواء لدى الكثير، أو البعض القليل، مما أتى به مضمون عمل إبداعي، أو إزاء اقتراح انتهى إليه اجتهاد مفكر في تفسير وشرح مرحلة ما، يبرر شكلاً آخر من أشكال التهور يتمثل في الاعتداء على صاحب المحتوى المرفوض، أو واضع العمل الذي اعتبِر أنه مسيء؟ كلا، إطلاقاً. هذا ليس مجرد رأي من عندي. عندما أدلى الدكتور محمد الغزالي، بشهادته في محاكمة قاتل الكاتب فرج فودة (8 - 6 - 1992)، أدان أقوال وكتابات الرجل عن الإسلام، لكنه ذكّر بحقيقة أن إقامة الحد مسؤولية ولي الأمر، وأنه ليس جائزاً لكل مسلم أن يعطي نفسه حق الإفتاء، أو تنفيذ القانون، ثم وصف القتلة بالنزق وقلة العلم. وعندما تعرض نجيب محفوظ للطعن (14 - 10 - 1995) أكد أنه غير حاقد على من حاول قتله، بل مضى أبعد من ذلك بالقول إنه تمنى ألا يتم تنفيذ إعدام اللذين أدينا بجريمة الطعن. تُرى هل أنها مجرد مصادفة، أم مفارقة، أم الأصح، ربما، أنها تصلح مقاربة عند التأمل في واقعة أن عنق نجيب محفوظ كان موضع الطعن، تماماً مثل الذي وقع في محاولة قتل سلمان رشدي؟ أياً كان الحال، يبقى واضحاً لكل ذي اهتمام أن قتل المفكر لن يقتل مضمون الفكر الذي حمل. وقع هذا مراراً، وتكرر، قبل فرج فودة، ونجيب محفوظ، وسلمان رشدي، والأرجح أن يتواصل، لكنه نهج عدمي لن يوصل إلا إلى ما هو عكس المُراد منه، فالمُستهدف يزداد حضوراً، وفكره يصبح مطلوباً أكثر، خصوصاً في عصر الفضاء الإلكتروني.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من محفوظ إلى رشدي من محفوظ إلى رشدي



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 04:38 2016 الأحد ,17 كانون الثاني / يناير

معتقدات متوارثة عن الفتاة السمراء

GMT 18:38 2017 الثلاثاء ,20 حزيران / يونيو

شاروخان يعيش في قصر فاخر في مدينة مانات الهندية

GMT 12:25 2012 الإثنين ,23 تموز / يوليو

إيطاليا، فرانكا سوزاني هي لي

GMT 11:25 2014 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

"عام غياب الأخلاق"

GMT 01:38 2019 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

فالفيردي يحشد قوته الضاربة لمواجهة "سوسيداد"

GMT 21:23 2018 الإثنين ,17 كانون الأول / ديسمبر

تفاصيل مُثيرة جديدة بشأن زواج "شابين" في المغرب

GMT 18:28 2018 الإثنين ,27 آب / أغسطس

جوجل تدعم أذرع تحكم "Xbox" على إصدار Android 9.0 Pie

GMT 13:34 2018 الإثنين ,19 شباط / فبراير

تأجيل النظر في قضية مغتصب الأطفال في فاس

GMT 07:40 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

علماء يبتكرون إبرة تصل إلى الدماغ لتنقيط الأدوية

GMT 17:20 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

"الحوت الأزرق" بريء من انتحار طفل في طنجة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca