حوار جيل آخر!

الدار البيضاء اليوم  -

حوار جيل آخر

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

حينما وقف جون كنيدى لكى يحلف اليمين الدستورية لتولى رئاسة الدولة الأمريكية أمام قاضى القضاة، كان فى مقابله دوايت إيزنهاور، الرئيس الذى انقضت ولايته أو بقيت منها ثوانٍ قليلة حتى ينتهى القَسَم. تساءل كثيرون عما دار فى ذهن الرئيس المنتهية ولايته وهو يسلم السلطة الأمريكية الجبارة إلى شاب لم يتجاوز الثالثة والأربعين من العمر؛ وتوقع بعض مَن تساءل أنه لا بد أن الرئيس لم يتمالك نفسه من مقارنة عسكرية لا يمكن الهرب منها.

كان أيزنهاور، قائد قوات الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، جنرالًا بخمس نجوم لم يحصل على مثيلها إلا قلة من الجنرالات عبر التاريخ، وكان هو وليس غيره الذى وضع خطة «نورماندى» لغزو أوروبا وقصم ظهر النازية والفاشية.

وبعد أن جلس فى منزله لست سنوات، وتم تجنيده للسياسة من قِبَل الحزب الجمهورى، أخرج أمريكا من وحل الحرب الكورية وأعاد إليها السلام وبث الرخاء، ونجح فى تجنيب البلاد انقسامًا هائلًا حاولت «المكارثية» أن تفعله.

على الجانب الآخر كان هناك جون كنيدى، الذى لم تزد رتبته أثناء الحرب عن رتبة الملازم أول، وبطولته عن إنقاذ أفراد طاقم قاربه البحرى ١٠٩. صحيح أن للرجل سمعة أخرى كنبت من أغنى أغنياء الولايات المتحدة، وشاب يتمتع بالوسامة السينمائية، ورصيد لا بأس به فى مجلس النواب، وزوجة- جاكلين كنيدى- جذبت إليها قلوب الأمريكيين، ومعها سجل لا بأس به من الغزوات النسائية الشهيرة!.

أيًّا ما كان لدى الرئيس القادم كان يخبو بالمقارنة بالرئيس الذاهب، الذى ربما خطر له أنه يشاهد واحدًا من عجائب الديمقراطية الأمريكية، التى تسمح لمثل هذا الشاب أن يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة.

.. ولكن كنيدى كان لديه سلاح لم يكن متوفرًا بالمرة لـ«أيزنهاور»، أو «آيك»، كما كان معروفًا بين أقرانه، وهو أنه يمثل جيلًا جديدًا آن الأوان لكى يعتلى سدّة السلطة فى البلاد. كان جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية هو الذى أعطى أصواته لكنيدى وليس ريتشارد نيكسون، ليس فقط لأنه عرف كيف يستغل المناظرة السياسية معه، ولا بثها لأول مرة على التليفزيون فى نطاق واسع، وإنما لأنه كان ممثلًا لجيل لا يريد السلطة فى البيت الأبيض فقط، وإنما فى الولايات، والمجالس التشريعية، والجامعات، والعمل الأهلى، وقبل وبعد كل شىء فى مجال الأعمال والشركات.

كانت أمريكا تتغير، وتخرج من عالم الحرب العالمية وما قبلها إلى عالم جديد كانت الدنيا فيه حبلى بغزو الفضاء والوصول إلى أقمار ونجوم وكواكب بعيدة فى مجالات العلوم والفن والثقافة. ما عرفناه بعدها وُلد فى تلك اللحظة التى أدى فيها جون كنيدى القَسَم.

أعتذر للقارئ الكريم عن أن الفقرتين السابقتين استعرتهما من مقال لى نشرته «المصرى اليوم»، يوم الأحد ٢٠ أكتوبر ٢٠١٣، تحت عنوان «جيل جديد آخر!»، بعد فترة قصيرة من ثورة يونيو، التى دشنت جيلًا مصريًّا تحمل مسؤولية تنفيذ المشروع المصرى الوطنى الجارى، الذى قام على كتف أحلام وطموحات مصرية طال زمن الوصول إليها.

كانت القيادة بالطبع للرئيس السيسى، الذى وقف حاميًا للمرحلة الانتقالية، التى لعب دورًا مهمًّا فيها الرئيس عدلى منصور، ومن بعدها كانت حماية وتنفيذ «رؤية مصر ٢٠٣٠» بمعدلات وسرعات لم يعرفها الجيل السابق، الذى كان يحلم بتنمية الصعيد وتعمير سيناء والصحراء الغربية من خلال «مديرية التحرير» و«مشروع توشكى»، وتلك الشرقية من خلال مشروع لقناة السويس والآخر الزراعى فى «الصالحية».

ولكن كل ذلك لم يذهب بعيدًا إلى عبور مصر تلك النقطة الفاصلة العميقة ما بين تجاوز الزيادة السكانية، والخروج من التخلف إلى التقدم، والانضمام إلى صفوف الدول المتقدمة. جيل حكام مصر خلال عقود ستة (١٩٥٢- ٢٠١١)، ولا أقصد بالحكام مَن هم فى السلطة السياسية فقط، وإنما هؤلاء الذين ينتشرون فى مراكز القرار السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى، وباختصار جماعة النخبة التى تفكر وتخطط وتنفذ.

هؤلاء تعود أصولهم الفكرية والنفسية إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى، أما تجربتهم العملية فلم تتجاوز كثيرًا عقدى الأربعينيات والخمسينيات من ذات القرن. وباختصار كانوا يمثلون تجربة «نظام يوليو»، الذى أنجز تحرير مصر من الاحتلال البريطانى ثم الاحتلال الإسرائيلى، وحاول قدر الطاقة أن يدفع مصر إلى الأمام؛ ولكنهم بعد مغادرة السلطة كان يبقى الكثير من الأحلام بأكثر مما هو مُحقَّق على أرض الواقع.

الآن يبدو أن العكس يقترب من الحقيقة، فلم يعد تعمير سيناء ولا تنمية الصعيد ولا اختراق الصحراوات الغربية والشرقية أحلامًا، ولا مضاعفة مساحة الأرض الزراعية خيالًا، ولا تغيير منطقة قناة السويس من قناة للعبور إلى محور إنتاجى وصناعى ولوجستى متكامل محض فكرة. تحقق ذلك ليس فقط بقيادة الرئيس السيسى ومعاونيه فقط، وإنما نتيجة العرق والجهود التى بذلها شباب مصر فى المواقع المختلفة، والتضحيات الهائلة التى قدمها الجنود والضباط فى الجيش والشرطة فى مواجهة الإرهاب، والأطباء والممرضون والعاملون فى الخدمة الصحية فى مواجهة الكورونا.

ولكن الحقيقة المُرّة الباقية هى أننا لم ننجح بعد فى تجاوز الزيادة السكانية لأن قوة دفع الأرحام لا تزال أكبر من معدلات رفع التنمية. ربما كنا قريبين من تلك النقطة فى مطلع العام عندما سجلنا معدلًا للنمو قدره ٩٪ خلال نصف العام المالى الأول من العام الجارى؛ ولكن الأزمة والحرب الأوكرانية أبطأت من الاندفاع وراجعت التقدم. الأمية لا تزال تتجاوز ٢٥٪ من السكان، ومعدلات الفقر تشمل أقل قليلًا من ٣٠٪ من المصريين، ورغم تحسن مراتبنا فى المؤشرات العالمية المتعارَف عليها فإن الوصول إلى مكانة الدول الثلاثين الأول فى العالم لا يزال بعيدًا.

هذه النقطة تحديدًا هى ما ينبغى الحوار السياسى حوله، والذى استقر به الرئيس فى خطابه أمام إفطار الأسرة المصرية. حوار القوى السياسية لا ينبغى له أن يبدأ من فراغ، فما حدث أمام الجميع منظور، وطريق استكماله واضح لأنه ذات الطريق الذى سارت فيه أمم قبلنا، وببساطة فإن السؤال المطروح علينا كأمة وقيادة هو كيف سنحقق ذلك، وما الأحلام أو الأولويات الجديدة التى نسعى إلى تحقيقها خلال المرحلة المقبلة؟. هذه سوف نجدها فى النوع أكثر من الكم، وفى المحتوى أكثر من الشكل؛ والأرجح أن أكثر المعاونين فى التفكير فيها سوف يكونون من ذلك الجيل الذى حفر أنفاق قناة السويس، وخضّر صحراوات الوادى الجديد.

المؤكد لدينا أنه صار فى مصر جيل جديد يختلف عن الجيل السابق المشار إليه، تقول الأرقام إنه يمثل أكثر من ثلثى السكان، وغالبيتهم يستخدمون الإنترنت، ومن المرجح أن لديهم معرفة أفضل بلغة أجنبية، ويعرفون عن العالم أكثر كثيرًا من آبائهم، ولا يخافون من الهجرة إلى الخارج، ولا يرهبون العمل فى الشركات الدولية، ولديهم غضب على أن مصر لم تحصل على ما تستحقه من مكانة فى صفوف الدول المتقدمة بعد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حوار جيل آخر حوار جيل آخر



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 03:25 2016 الإثنين ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

اكتشاف علاج جديد من القنب لعلاج الصرع

GMT 01:34 2016 السبت ,08 تشرين الأول / أكتوبر

8 طرق طبيعية للحصول على شعر ناعم خلال اسبوع

GMT 05:55 2015 الثلاثاء ,20 تشرين الأول / أكتوبر

هيئة سباق الخيل البريطاني تحقق طفرة في برامج المنافسات

GMT 13:53 2017 الثلاثاء ,18 إبريل / نيسان

يوفنتوس يستعيد ديبالا قبل مواجهة برشلونة

GMT 14:25 2017 الأربعاء ,07 حزيران / يونيو

أفكار متعددة لاختيار كراسي غرفة النوم موضة 2017

GMT 06:27 2018 الخميس ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل صحافية وعمّها بالرصاص في ولاية "أوهايو" الأميركية

GMT 02:42 2018 الثلاثاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

طبيب يُصوّر لحظة إزالة قُرادة حية من أُذن مريض

GMT 23:30 2018 الثلاثاء ,18 أيلول / سبتمبر

مايكروسوفت تدعو المستخدمين لتجربة متصفح "Edge"

GMT 16:21 2018 الأحد ,09 أيلول / سبتمبر

فضيحة تدفع جامعة فاس إلى حذف اختبارات شفوية

GMT 13:25 2018 الثلاثاء ,29 أيار / مايو

تركي آل الشيخ يعلن خبرًا صادمًا بشأن محمد صلاح

GMT 06:13 2018 السبت ,03 شباط / فبراير

المواصفات الواجب معرفتها قبل سيارة مستعملة

GMT 15:30 2018 الأربعاء ,10 كانون الثاني / يناير

ميامي هيت ينتصر على تورونتو رابتورز في دوري السلة الأميركي
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca