قض وقضيض عمرو موسى!

الدار البيضاء اليوم  -

قض وقضيض عمرو موسى

سليمان جودة
بقلم - سليمان جودة

سألني علاء الزيود، المستشار الإعلامي في السفارة الأردنية بالقاهرة، عما إذا كنت قد قرأت المقالة التي كتبها عمرو موسى تحت هذا العنوان: القض والقضيض والعام الجديد؟!
وكنت قد قرأتها وقت نشرها على صفحات «الشرق الأوسط»، التي كانت قد نشرتها ضمن سلسلة من المقالات لأسماء بارزة داخل العالم العربي وخارجه. وكانت صحيفة «المصري اليوم» قد أعادت نشرها صباح الخميس الموافق 20 من الشهر الحالي! وكان الهدف من وراء سلسلة المقالات المنشورة هو قراءة كف العام الجديد على كل مستوى من المستويات!
كانت مقالة موسى تقرأ هذا الكف عربياً، وقد غلبت عليها النبرة التشاؤمية الواضحة، وقد لاحظت هذا منذ الكلمة الأولى فيها، بمثل ما لاحظه المستشار الإعلامي الأردني. ومن الواضح أنه قد انزعج جداً من هذه النبرة الظاهرة في المقالة، فسارع يكتب لي عمّا أحسّ به فيما كتبه الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، وعمّا إذا كان ما وصل إليه من قراءتها قد وصل إليّ بالدرجة نفسها؟!
وإذا كان هذا ما وصل إلى الرجل، وإذا كان هذا ما وصل إليّ أيضاً، فلا بد أننا لسنا بدعاً بين القراء، ولا بد أن الإحساس ذاته قد وصل إلى الغالبية من الذين طالعوا المقالة ذات العنوان السجعي اللافت، سواء كانوا قد طالعوها في هذه الصحيفة التي بادرت بالنشر، أو في «المصري اليوم» التي أعادت النشر على سبيل تعميم الفائدة بين جمهور القراء!
والغالب أن موسى لم يقصد أن يكون متشائماً فيما كتب، فلا يوجد كاتب يجلس ليكتب فيقول إنه سيكتب بنبرة تشاؤمية، ولا يوجد كاتب يقرر العكس في المقابل فيقرر أن يحمل التفاؤل بين السطور إلى القارئ. وإنما الكاتب يجري بالحروف على سطوره مأخوذاً بأجواء سائدة من حوله، وهو لا يستطيع أن ينفصل عنها مهما حاول، ومهما جاهد ليكتب بعكس ما يحسه حوله، وما يتابعه، وما يراه أمام عينيه في الأفق المفتوح، وإذا كتب بما لا يحسه فسوف تكون كلماته خالية من المذاق!
وأتخيل أن شيئاً من هذا قد حدث مع كاتب «القض والقضيض» ولا بد أن الأجواء التي أحاطت به منذ ما قبل الكتابة قد فرضت عليه اختيار العنوان الذي كان له من مذاق المقالة نصيب، ولا بد أن الأجواء نفسها قد جعلت المحتوى يخرج إلى الناس على نحو ما خرج عليه!
ربما حدث هذا لأن صاحب المقالة رجل سياسي قبل أن يكون كاتباً، ومن شأن السياسي أن يكون واقعياً، وألا يُجمّل الواقع الذي يراه أو يضيف إليه من الرتوش الكاذبة ما ليس فيه، أو هكذا على الأقل نتصور السياسي الذي يظل صادقاً مع نفسه فلا يخدع ذاته ولا يخادع الآخرين!
والذين طالعوا مذكرات موسى التي صدرت في جزأين، لا بد أنهم لاحظوا واقعيته في الحديث عما رآه في مسيرته الطويلة، ولا بد أنهم قد استوقفهم أنه لم يشأ أن يُزين ما لا يجدي فيه التزيين، ولا بد أنهم قد استوقفهم أنه فعل ذلك غير عابئ بما يمكن أن يجره عليه من متاعب، وقد حدث هذا معه بالفعل وقت صدور الجزء الأول، ثم تكرر نسبياً مع صدور الجزء الثاني، لولا أنه كان قد عاهد نفسه منذ البداية ألا يخاف ما دام قد قرر أن يقول!
ماذا كان عساه أن يقول بخلاف ما قاله في مقالته الحزينة؟! ماذا كان عساه أن يقول إذا كان هذا هو الحال العربي في كل اتجاه تقع عليه عيناك؟! وماذا كان في مقدوره أن يفعل إذا كان كلما تطلع إلى الخريطة العربية أمامه وجدها على ما نراها عليه أمامنا من بؤس، ومن تعاسة، ومن هوان على الناس؟! وهل كان في إمكانه أن يداري؟! وكيف يداري إذا كان كلما وضع قلمه في مداده، خرج له القلم بما جرى به فوق السطور عن القض والقضيض وبما قرأناه مما هو منشور؟!
إذا شئنا أن نجيب عن هذه الأسئلة كلها، فليس أمامنا سوى أن نعود إلى قصة اللوحة الفنية الشهيرة التي رسمها بيكاسو وقت الحرب الأهلية الإسبانية 1937!
وقتها كان الألمان النازيون والإيطاليون قد دخلوا إسبانيا يقفون إلى جوار القوميين الإسبان في مواجهة حركة المقاومة، وكانت هذه الحركة تتحصن في الكثير من قرى الشمال، ولكنها كانت تتحصن أكثر في قرية اسمها جرنيكا!
وفي سبيل إخماد المقاومة فإن القوات المهاجمة من النازيين والإيطاليين قد قصفت جرنيكا كما لم تقصف مكاناً مثلها في إسبانيا، ولم يكن الذين رأوا القرية بعد تسويتها بالأرض يصدقون أن بشراً عاشوا فيها من قبل، فلم تكن طوبة فيها قد بقيت في مكانها، ولم يكن أحد من أهلها تقريباً قد بقي حياً، ولا كان الذين عرفوها فيما سبق يستطيعون أن يميزوا فيها شيئاً!
ولا تزال تفاصيل اللوحة مخيفة لكل عين تتطلع إليها معلّقة على كل جدار، وإذا ما جرّبت أنت أن تتطلع نحوها فسوف تفزعك ألوانها منذ اللحظة الأولى، وسوف تذكر ما قاله صلاح عبد الصبور عن «رؤوس الحيوانات التي على جثث الناس، ورؤوس الناس التي على جثث الحيوانات» كأنه، يرحمه الله، كان يقصد أن يشير إلى لوحة جرنيكا من دون أن يسميها!
سترى أطراف الحيوانات تتطاير في أرجاء اللوحة، وسترى أشلاء الإنسان يتقاذفها الفنان في كل اتجاه، وسترى الفرشاة مبللة بالدم في كل حركة على طول جرنيكا وعرضها، وسترى الوجع، والألم، والأسى، مفردات منثورة بين التفاصيل الصغيرة!
وليس في تاريخ اللوحة المكتوب ما يشير بوضوح إلى الأسباب التي دعت بيكاسو إلى رسمها بهذا الإحساس الطاغي، ولا أحد على يقين مما إذا كان الفنان قد سمع من آخرين بما ارتكبه النازيون والطليان في القرية، أم أن أحداً قد دعاه إلى المجيء إليها ليرى بعينيه ما جرى فيها؟!
وأياً كان سبيله إلى ما رسم، وإلى ما انفعل به، وإلى ما جعل الآخرين ينفعلون بالدرجة نفسها، كلما ألقوا نظرة على جرنيكا، اللوحة لا القرية، فالمهم أنه رسم ما رآه، والمهم أنه جعل من لوحته سجلاً خالداً لما كان في القرية الإسبانية من جرائم وحشية على يد النازيين والإيطاليين، والأهم أنه جعل من الفن سلاحاً أقوى من سلاح القتلة أنفسهم!
والسؤال هو: ما علاقة هذا كله بمقالة القض والقضيض؟! وما علاقة ما رسم بيكاسو القرن الماضي، بما كتب موسى في القرن الواحد والعشرين؟! وماذا بالضبط يربط بين لوحة ارتسمت في وقتها بالألوان، وبين مقالة جرت سطورها في وقتنا بالكلمات؟!
العلاقة أن النازيين قد جاءوا إلى الفنان يوماً يسألونه: لماذا أخرج اللوحة بهذا القدر من البشاعة، ولماذا ملأها بالتفاصيل التي تبعث الرعب في نفس كل متطلع إليها، ولماذا، ولماذا... إلى آخر ما كان يؤرقهم في كل مرة يسمعون فيها أن أمر اللوحة يزداد شيوعاً وانتشاراً بين الناس؟!
ولم يفكر في الإجابة طويلاً، ولكنه قال سريعاً وفي هدوء: لست أنا الذي رسمت جرنيكا في الحقيقة، ولكنكم أنتم الذين رسمتموها بأيديكم، وأنتم الذين سبقتموني إلى هناك ففعلتم بها ما يراه الذين يتأملون ما رسمت، وكل ما قمت به أني نقلت إلى داخل إطارها ما وجدته منكم أمامي في القرية على الأرض، ولم أفعل شيئاً سوى أني جعلت الفن ينطق نيابةً عن الواقع الأليم!
ولا أظن أن جواب عمرو موسى سيختلف، لو أنه صادف عربياً هنا، أو صادفه عربي آخر هناك، ثم سأله الاثنان عن السبب الذي دعاه إلى ارتداء نظارة سوداء وهو يكتب عن القض والقضيض!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قض وقضيض عمرو موسى قض وقضيض عمرو موسى



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 13:23 2017 الخميس ,28 أيلول / سبتمبر

شاب يفاجئ بأخته ضمن وفد من المومسات في الناظور

GMT 14:42 2019 الإثنين ,28 كانون الثاني / يناير

فتح تحقيق مُعمَّق في افتراس حيوان مُتوحِّش لشخص في زاكورة

GMT 08:02 2018 الإثنين ,02 تموز / يوليو

فوائد لا تحصى عند امتصاص حبة قرنفل صباحًا

GMT 05:42 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

سائق لوري يعثر على خاتم ذهبيّ مثير من العصور الوسطى

GMT 08:48 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

دواء جديد يعالج سرطاني الثدي والمعدة

GMT 05:28 2017 السبت ,23 كانون الأول / ديسمبر

مقترحات مبتكرة لشراء هدايا عيد الميلاد عبر الإنترنت

GMT 05:11 2017 الأحد ,17 كانون الأول / ديسمبر

"مارشيزا" تستعد لتقديم مجموعة خريف 2018 في نيويورك

GMT 13:24 2017 الجمعة ,08 كانون الأول / ديسمبر

اعتقال مغربي في إيطاليا تسبّب في كسر جمجمة طفله

GMT 05:39 2017 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

دينا محسن تحتفل بزوجها في التجمع الخامس الإثنين

GMT 19:57 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

عطاف الروضان تبرز أهمية مواقع التواصل في دعم قضية المرأة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca