لو يراعي القيصر فروق التوقيت!

الدار البيضاء اليوم  -

لو يراعي القيصر فروق التوقيت

سليمان جودة
بقلم - سليمان جودة

جرت العادة في شهر رمضان من كل سنة، أن يستمع الذين ينتظرون أذان المغرب في مصر، إلى عبارة تقليدية يخاطب بها المذيع مستمعيه في الإذاعة قبل الأذان مباشرة. تقول العبارة: «حان الآن موعد أذان المغرب، حسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة (أي المدينة التي تبث منها الإذاعة برامجها) وعلى السادة المقيمين خارجها مراعاة فروق التوقيت».
والمعنى المباشر أن هناك فروقاً في التوقيت بين مرسى مطروح – مثلاً - في أقصى غرب البلاد، ومعها أسوان في أقصى الجنوب، وبين القاهرة التي هي أقرب للشمال، وهي فروق بالدقائق المعدودة بين المدن الثلاث، ولكن لا سبيل أمام الصائم سوى مراعاتها؛ لأن التوقيت الذي يفطر عليه صائم العاصمة، ليس هو التوقيت الذي لصائم مطروح أو أسوان أن يفطر عليه.
والمعنى أيضاً أن اللحظة التي يجوز فيها تناول الإفطار في قاهرة المعز، لا يجوز الإفطار فيها هي نفسها في مدينة أخرى من مدن البلد، حتى ولو كانت المدينتان تنتميان إلى بلد واحد!
والغالب أن كثيرين ممن يسمعون مثل هذه العبارة في الراديو، لا يتوقفون عندها كثيراً، ولا حتى قليلاً، ولكن هذا لا ينفي ضرورتها كعبارة، ولا ينفي أن الذين لا يراعون فروق التوقيت سوف يقعون في خطأ، وأنهم سيتحملون المسؤولية الشخصية أمام أنفسهم عن ارتكاب هذا الخطأ؛ لأن الجهة المسؤولة لم تقصر، ولأنها أذاعت على الهواء مباشرة ما لا بد من مراعاته عند تناول الإفطار.
والمعنى الأشمل في الموضوع أن الإفطار هو في النهاية فعل، وأن هذا الفعل له توقيت يتم فيه ليكون صحيحاً، وأن خروج الفعل عن توقيته الدقيق، سواء كان إفطاراً في رمضان أو كان شيئاً آخر، يحوله من فعل صحيح إلى فعل آخر يجري خارج سياق زمانه!
وعندما وقع اغتيال الرئيس السادات في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1981، ذهب الناشر أحمد يحيى يزور أنيس منصور في مكتبه.
وقد سمعت من الناشر - يرحمه الله - أنه زار منصور ليصارحه بأنه كان أقرب الصحافيين من السادات خلال سنواته الأخيرة، وأن ذلك يرشحه ليكون صاحب أهم كتاب عن السادات، وأن عليه منذ اللحظة أن يجلس ليضع هذا الكتاب، وألا يتباطأ أو يتأخر!
كان يحيى قد نشر من قبل كتاب «البحث عن الذات» للسادات، وكانت دار النشر التي يملكها هي صاحبة حقوق نشر الكتاب كاملة، وكانت الدار قد نقلته إلى ثلاثين لغة حول العالم، وكان الكتاب سيرة ذاتية مشوقة، كتبها صاحبها بقلمه عن حياته كلها. وكان الناشر يأمل أن يضع إلى جوار السيرة كتاباً آخر عن الرجل، ولكن بقلم أنيس منصور هذه المرة! ولكن أنيس منصور ترك الناشر المتحمس جداً يقول كل ما عنده، ثم خاطبه في هدوء قائلاً: «تجب مراعاة فروق التوقيت»!
وكان المعنى أن ما لديه كصديق كان مقرباً من السادات، يحتاج إلى توقيت مناسب يقال فيه، وأن هذه اللحظة التي جاء الناشر يكلمه فيها، ليست هي هذا التوقيت المناسب، وأنه لا حل أمامهما غير أن ينتظرا، لعل لحظة التوقيت المناسب تجيء.
ومن بعدها كنت ألتقي أحمد يحيى كثيراً، وكانت فروق توقيت أنيس منصور حكاية حاضرة في كل لقاء بيننا تقريباً، وكان هو كناشر يرى أن منصور قد أضاع فرصة من النادر أن تتكرر في حياة كاتب مثله، ولم يكن يهضم موضوع فروق التوقيت ولا يستوعبه، وكان يتصور أن أي كاتب آخر في مكانه كان سينتهز الفرصة ويكتب عن السادات ما لم يكتبه أحد!
وكان كلاهما على صواب في مبرراته التي يقولها ويذكرها، ولكن عقلية الناشر في مثل هذه الحالة تختلف بالتأكيد عن عقلية الكاتب، فما يراه أحدهما في القضية ذاتها لا يراه الثاني؛ لأن أحدهما يفكر بشكل سياسي، بينما الآخر عقليته تجارية بطبيعتها، فضلاً على ما كان يؤمن به ويراه من أفكار فيما ينشره.
وفي مرة قابلت أنيس منصور، وسألته عن فروق التوقيت، فقال ما معناه أن ذلك قد حدث بالفعل بينه وبين الناشر، وأن القصة كلها كانت أن فيما سيكتبه عن السادات أشياء كان حسني مبارك طرفاً فيها، وأنه قد حاول استئذان مبارك في كتابة هذه الأشياء، ولكن في كل مرة كان حسني مبارك يستمهله، ويطلب منه أن ينتظر، وألا يتعجل في كتابة ما يعرفه.
وكأن مبارك كان هو أيضاً يخاطب أنيس منصور في كل مرة ذهب يستأذنه فيها، ولسان حاله يقول: تجب مراعاة فروق التوقيت!
شيء من هذا كله سوف تجده في الخلفية مما يدور في الوقت الراهن، من حرب روسية أوكرانية فوق الأراضي الأوكرانية، منذ أن اجتاحت قوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أرض أوكرانيا المجاورة، في الرابع والعشرين من الشهر الماضي.
وسوف تجده على وجه التحديد في شخصية الرئيس بوتين، وكذلك في قناعاته السياسية التي لا يخفيها، والتي لم يجد حرجاً في الإعلان عنها مرة تلو أخرى. إنه يجلس على رأس دولة تتمدد على مساحة تصل إلى 17 مليون كيلومتر مربع، وهي مساحة تصل إلى ضعف مساحة الولايات المتحدة نفسها تقريباً، ومع ذلك فإنه لا يداري حنينه؛ ليس فقط إلى الاتحاد السوفياتي السابق الذي نام في أيامه على 24 مليون كيلومتر مربع، وإنما يحن الرجل إلى أيام روسيا القيصرية السابقة على الاتحاد السوفياتي السابق ذاته!
ولا مشكلة طبعاً في أن يحن رجل مثله إلى ما يحب ويشاء، ولكن الحنين السياسي في مثل حالته مرهون بعوامل كثيرة، ليس أولها ما إذا كانت إمكاناته القائمة تسعفه أو لا تسعفه فيما يحن عقله إليه، ولا آخرها ما إذا كانت الظروف التي يعيشها تطاوعه أو لا تطاوعه.
ومن الواضح أن إمكاناته تسعفه؛ لأن رجلاً بعقليته وبخلفيته العملية، لا يمكن أن يتخذ قراراً باجتياح دولة جارة، إلا إذا كان قد أحضر ورقة وقلماً ثم جلس وحسبها!
ولكن القضية الأهم بالنسبة له هي في الأرض التي سيكون عليه أن يتحرك فوقها؛ سواء كانت هذه الأرض أرضاً بالمعنى المادي للكلمة، أي الأراضي الأوكرانية إلى جوار بلاده، وما إذا كانت حركته عليها ستكون سهلة أم صعبة! وسواء كانت أرضاً بالمعنى السياسي، أي البيئة الدولية التي سيكون عليه أن يتعامل معها وهو يقود قواته في اجتياحها، وما إذا كانت بيئة حليفة ومساعدة، أم ستكون بيئة رافضة ومعاكسة!
هذه هي الفكرة كلها في حنينه إلى أيام الاتحاد السوفياتي السابق مرة، ثم إلى زمن روسيا القيصرية مرة ثانية، ففي المرتين سيكون عليه أن يراعي فروق التوقيت. وحين تعود قواته إلى قواعدها قبل الاجتياح، أو حين تصل هذه الأزمة إلى نهايتها، فسيتبين تماماً وقتها ما إذا كان قد راعى ذلك بالفعل، أم أن هذه الفروق لم تكن في اعتباره ولا في حسابه.
هناك فروق توقيت بين العصر الذي نعيشه والعصر الذي قام فيه الاتحاد السوفياتي السابق، إلى أن اختفى، ثم هناك فروق توقيت بين العصرين وزمن روسيا القيصرية في أيامها، وهذا كله لا بد أنه كان يشغل بال الرئيس الروسي منذ دخل الكرملين، ولكن المشكلة ليست فيما شغله ويشغله، ولكنها فيما يعمله ويفعله!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لو يراعي القيصر فروق التوقيت لو يراعي القيصر فروق التوقيت



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 15:10 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

رئيس الرجاء يحاول اقتناص لاعبين أحرار بدون تعاقد

GMT 05:33 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن موقع هبوط يوليوس قيصر لغزو بريطانيا

GMT 09:33 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

عهد التميمي

GMT 10:19 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الروسي يعلن وصول أول كتيبة من سورية إلى موسكو

GMT 11:50 2016 الثلاثاء ,20 أيلول / سبتمبر

مقتل 4 من عناصر "بي كا كا" في قصف تركي شمالي العراق

GMT 06:09 2017 الجمعة ,01 كانون الأول / ديسمبر

8 معلومات مهمة عن "جسر العمالقة" تزيد الفضول لزيارته

GMT 17:21 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مدرب الأرجنتين يعلن عن تشكيلته لمواجهة البرازيل

GMT 00:21 2016 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

صحيفة بريطانية تكشف أفضل 10 فنادق في مدينة روما

GMT 22:46 2017 الخميس ,28 أيلول / سبتمبر

حسن الفد يعيد شخصية كبور من خلال عرضه " سكيتش"

GMT 16:29 2017 الثلاثاء ,03 كانون الثاني / يناير

2016 عام حافل بالأنشطة والعروض في الدار العراقية للأزياء

GMT 04:38 2015 الثلاثاء ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مرضٌ خطير يصيب الأبقار ويعزل عشرات القرى في سطات

GMT 21:21 2015 الأربعاء ,11 آذار/ مارس

وفاة الممثل المسرحي المغربي إدريس الفيلالي

GMT 00:11 2017 الجمعة ,13 تشرين الأول / أكتوبر

تحف فنية من الزخارف الإسلامية على ورق الموز في الأردن

GMT 23:14 2016 الإثنين ,25 إبريل / نيسان

ماهي فوائد نبتة الخزامى ( اللافندر )؟

GMT 00:00 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

Velvet Orchid Lumière Tom Ford عطر المرأة الرومانسية

GMT 20:32 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

حيوانات الرنة مهددة بالانقراض بسبب تغير المناخ
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca