القطار المسافر نحو الهاوية

الدار البيضاء اليوم  -

القطار المسافر نحو الهاوية

غسان شربل
بقلم : غسان شربل

قال صديقي البريطاني إنَّه حزينٌ لأنَّ الجفافَ هاجمَ بلاده. يؤلمُه عطشُ الأشجار وموتُ الأزهار. يرى أنَّ الحكومات المتعاقبة لم تقم بواجبها. كان عليها انتهاج سياسات أكثر نضجاً في التعامل مع البيئة والتغير المناخي. تنفق القوى السياسية معظمَ طاقاتها في حروب التسابق على المواقع في البرلمان والحكومة. سلوك يتَّسمُ بقدر كبير من المراهقة دفعته ديكتاتورية وسائل التواصل الاجتماعي إلى حدود التهريج. أستغرب كيف ينشغل الرأي العام بفضيحة من هنا، وهناك وينسى الأخطارَ الكبيرة المقتربة. يستهجنُ كيف تُهدَر أموالٌ هائلةٌ في مواضيع أقل إلحاحاً.
قدَّرتُ حزنَ صديقي. ما أقسى رؤية الحدائق يابسة كمخيلات مهجورة! ورؤية الغابات قبوراً شاسعة لنباتاتها. استوقفني قوله إنَّ موتَ الأشجار يذكّره بموت الناس. بالخسائر التي لا يمكن تعويضُها. هذا الموت يعمِّقُ الغربة بين الإنسان والتراب الذي يقف عليه. الأشجار رسائلُ حبٍّ من الأرض لساكنيها. الأزهار عطرٌ يرسله الترابُ لجعل الحياة أقلَ قسوة أو وحشة.
لم يكن كلامُ ساكستون هذا سوى مقدماتٍ للحديث عن مخاوفه الحقيقية والعميقة. قال: «حين تهبُّ عليك رائحةُ التسعينات لا يبقى لديك ما تخسرُه. شيَّعتُ جميعَ أصدقائي تقريباً. وشيَّعتُ رفيقةَ عمري. أنا رجلٌ وحيدٌ ينتظر موعدَه الأخير. ذاكرتي تنزف الأسماءَ والأماكن إلى غير رجعة. نسيت أسماءَ معظم السيمفونيات التي كنت أطاردُها من مدينة إلى أخرى. نسيتُ أيضاً تلك الكتب المذهلة التي كنتُ أحتفل بالإقامة بين صفحاتها. ومن يدري فقد أنسى غداً شكسبير نفسَه وفلوبير وفولتير. وحتى الذكريات القليلة التي تزورني فقدت عطرها».
لفتني كلامُ الرجل الذي أمضى عمرَه ينقّب في إبداعات الموسيقيين والكتاب، خصوصاً حين اختار تبديد العقود في المقارنة بين الروائع المكتوبة بالإنجليزية وتلك المكتوبة بالفرنسية. قال إنَّ أكثرَ ما يؤلمُه ليس اقتراب موعده مع التراب، بل الذهاب إليه يائساً.
يكره ساكستون السياسات الأميركية. يعدّها فظةً ومتقلبة وعاجزة عن فهم العالم وتعقيداته. خيبته الكبرى تأتي حالياً من روسيا التي كانَ يربطه بها خيطٌ من الودّ لأنَّها بلاد دوستويفسكي وغوغول وبوشكين وتشيخوف. كشفت له الحربُ الروسية في أوكرانيا أنَّ روسيا الكتّاب غير روسيا القياصرة وورثة ستالين.
قال ساكستون إنَّ الخوف الذي يعتريه حالياً يذكِّره بالخوف الذي استولى عليه يومَ كان يسارع إلى الاختباء من الغارات الجوية إبان الحرب العالمية الثانية. لاحظ أنَّ دويَّ المدافع على الأرض الأوكرانية يعني أوروبا بمجملها وليس فقط المسرح المباشر للحرب. قال إنَّ إقدامَ دولة على ضمِّ أجزاء من دولة مجاورة يذكِّره بتلك الأيام التي اندفعت فيها الجيوش في أكبر وليمة دموية في التاريخ: شطب الحدود الدولية، وسلخ أجزاء، وتغيير هوية الأماكن، ودفع المواطنين إلى التيه ومراكز استقبال اللاجئين. لفت إلى أنَّ الانفجار اليوغوسلافي كانَ دموياً وكثيرَ الدلالات، لكنَّه حوصر، وأقنع الأوروبيون أنفسَهم بأنَّ تلك الجريمة مجرد استثناء. اللعبة اليوم أخطر. روسيا تحاول إعدامَ أوكرانيا كدولة مستقلة، والغرب يضخُّ الأسلحة في عروق الجيش الأوكراني لاستنزاف روسيا. وفي غمرة الانهيار الكبير تقومُ بيلوسي بزيارة لتايوان أعطت التنينَ الصيني فرصة الإعلان عن قدرته على اشتباك كبير يمكن أن يُدمِي العالم ويقتل اقتصاده.
لاحظ أنَّ المأساةَ تبدأ حين تقعُ الدولُ فريسةً الخوفِ أو الذعر بفعل غياب صِمَامَاتُ الأمان الدولية. تذهب الدول سريعاً إلى تناول السمّ. تراهنُ على الجيوش لتبديد قلقها فتتضاعف فرص اندلاع النزاعات التي تأكلُ البشرَ والحجر. قال إنَّ بريطانيا تحاول الإيحاء بأنَّها قوية لكنها مضطربة. وألمانيا خائفة وفرنسا مرتبكة. ستسرق الترسانات الأموال التي كانَ يمكن أن تُنفَق في التنمية والتطوير وتحسين شروط حياة الناس. توهَّمنا أنَّ هذا العالم الذي حقَّق قفزات تكنولوجية مذهلة تعلَّم من تجاربه. توهمُنا أنَّ إنسانيته اغتنت وصار أكثر تعقلاً. المخاوف ولادة للعصبيات وأمواج التطرف ودعوات الاشتباك والطلاق.
قال ساكستون إنَّه غير واثق على الإطلاق من أنَّ لندن ستكون بعد عقد أو اثنين أفضلَ ممَّا هي حالياً. الأمر نفسه بالنسبة إلى برلين وباريس وموسكو. وسألني فجأة ما إذا كنت واثقاً أنَّ بيروت ستكون أفضلَ بعد عقد أو اثنين؟
أربكني السؤال. أنا لست واثقاً. ويمكنني الجزم بأنَّني لست واثقاً على الإطلاق. أخشى أن تكونَ بيروت قرية منسيّة تعيش على هامش العصر وترتبك بالفقراء ومَن تبقَّى من أبنائها. لا أريد التكهنَ حول مستقبل دمشق وبغداد وطرابلس وصنعاء. أبناؤها أدرى بشعابها، لكنّني لست واثقاً من أنَّ السنوات المقبلة ستكون أفضلَ من السنوات الحالية.
واضح أنَّ أوروبا فوجئت بعودة دويِّ المدافع إلى أراضيها. القلق واضح لكن دول القارة تمتلك على الأقل مؤسسات تستطيع محاسبة حكومة جانحة أو حاكم متهور. تستطيع تغييرَ الحكومة وإعادة قراءة الأحداث. تملك على الأقل مستشفيات لمعالجة الجرحى وأجهزة إطفاء لمكافحة الحرائق. بلداننا مسكينة. تقف عاريةً وخرائطها مصابة بـ«زنار النار». لا يمكن إنقاذ خريطة نُكبت بحكومات فاشلة على مدار عقود. نُكبت بسياسيين من قماشة حفّاري القبور ينقضّون على المال العام بشراهة القراصنة.
عالم يتقلَّب على المخاوف وهدير النزاعات موعود بمزيد من الجنازات واللاجئين والفقراء. الأمن مهدَّد والخبزُ أصعب. ماذا لو استيقظنا على كارثة نووية في أوكرانيا؟ وماذا لو قرر بوتين تأديبَ دولة أطلسية؟ وماذا لو قرر شي جينبينغ إنزال الجيش الصيني في تايوان؟ يحذّر هنري كيسنجر من اقتراب موعد مواجهة بالغة الخطورة بين أميركا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى. لا نريد أن نصدّق ذلك. لكن الواضح أنَّ العالم يسلك طريق الهاوية.

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القطار المسافر نحو الهاوية القطار المسافر نحو الهاوية



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 10:09 2018 الأحد ,07 كانون الثاني / يناير

ضعيف يكشف عن لائحة مجلس المكناسي لكرة السلة

GMT 17:28 2017 الجمعة ,22 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ساحرة من التنانير الكلوش لمظهر أنثوي مثير

GMT 14:39 2017 الخميس ,21 كانون الأول / ديسمبر

المغرب يقترض من البنك الدولي 200 مليون دولار أميركي

GMT 04:12 2017 الخميس ,21 كانون الأول / ديسمبر

ديانا كرازون تظهر بإطلالة مبهرة في حفلة خاصة في قطر

GMT 00:44 2017 الأحد ,17 كانون الأول / ديسمبر

فريق الأهلي يُحقق فوزًا رائعًا على نظيره الأوليمبي

GMT 12:57 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

"الاستهتار" يدفع حكم لقاء سبورتنغ والطيران لإلغاء المباراة

GMT 06:13 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

عزل "بالمختار" من إدارة المرصد المغربي للتنمية البشرية

GMT 19:27 2016 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

الدرهم المغربي ينخفض أمام الدولار الأميركي بنحو 0.0001

GMT 19:16 2016 الجمعة ,15 إبريل / نيسان

ما مدى دقة اختبار الحمل المنزلي؟
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca