بوتين في «أم المعارك»

الدار البيضاء اليوم  -

بوتين في «أم المعارك»

غسان شربل
بقلم : غسان شربل

في الليل وقف وحيداً أمام الخريطة. التكليف الحاسم لا يصدر عن الناخبين. إنه تفويض من روح الأمة التي تنتظر رجلاً قوياً لتعلق عليه همومها وآمالها. كلّفه التاريخ العميق مهمة، ولن يتردد في تأديتها. هذه سنة حاسمة في مسيرته. نظر إلى الساعة المعلقة على الجدار. لو يستطيع اعتقال عقاربها. فقبل نهاية السنة ستهب عليه السبعينات.
يحدق في الخريطة. الحدود السابقة للاتحاد السوفياتي تقيم كالجروح في ذاكرته. ماتت البلاد الشاسعة، وتراكض الورثة لتوزيع الإرث. حظهم سيئ. استدعته روسيا وأمرته بإعداد الانقلاب الكبير. في التاريخ أقامت روسيا وسط الأخطار. حاربت وحوربت. قاتلت وقتلت وقتلت. وضعها أفضل الآن. الفرس الذين قاتلتهم روسيا في حروب عدة أرسلوا رئيسهم قبل أسابيع. جلس على الكرسي الذي جلس عليه سيد الإليزيه. جاء يطلب تعميق التعاون بعدما تأكد، أسوة بكثيرين، أن روسيا لم تعد الرجل المريض. يعرف رئيسي أن بلاده كانت مهددة بخسارة «الهلال» لو لم تسارع روسيا إلى إرسال جيشها لإنقاذ نظام الرئيس بشار الأسد. العثمانيون الذين قاتلوا روسيا في 10 حروب أرسلوا رئيسهم مرات عدة بعدما صرنا جيرانهم عبر الأراضي السورية. لم يكتف رجب طيب إردوغان باسترضائنا، بل ذهب أبعد. اشترى صواريخ «إس 400» وأدخلها عملياً إلى حديقة الأطلسي.
ينظر مجدداً إلى الخريطة. دائماً كانت أوروبا مصدر الرياح المسمومة. أخضع نابوليون جيرانه وتوهم القدرة على تتويج انتصاراته بإخضاع روسيا. لم يتعظ هتلر من هزيمة نابليون، وجاء في مهمة انتهت انتحارية لحكمه وبلاده. أوروبا قارة عجوز، لكن الظل الأميركي يحرسها ويدفعها إلى أدوار مؤذية من قماشة تطويق روسيا بالثورات الملونة أو قواعد حلف «الناتو».
يبتسم. أوروبا ليست المشكلة. شاخت وترهلت. ومن دون الغاز الروسي يقتلها الصقيع. وحده الخيط الأميركي يحرس نموذجها ويوقظ إرادتها ويرمم عنادها. كتم مشاعره طويلاً وأخفى حساباته. لن يقبل أقل من طي صفحة عالم التفرد الأميركي الذي ولد من انهيار جدار برلين، ورقص فوق جثة الاتحاد السوفياتي. يرتدي ابتسامة ساخرة. شمس عالم القوة العظمى الوحيدة ستغرب على يديه، وليس على يد شي جينبينغ.
ثمة مشاهد لن يسمح بتكرارها. سحقت الآلة العسكرية الأميركية نظام «طالبان». نظام المقاتلين الذين ساعدتهم أميركا على إرغام «الجيش الأحمر» على الانسحاب مثخناً من تلك البلاد الوعرة. يذكر جيداً. كان في مكتبه في الكرملين حين أطل جورج بوش من البيت الأبيض ليوجه إلى صدام حسين وعائلته إنذاراً حاسماً بالمغادرة خلال 48 ساعة أو مواجهة الحرب. وتابع على الشاشات كيف سحقت القوات الأميركية السلاح السوفياتي الذي اتكأ عليه صدام. وكان رئيساً للحكومة حين انهال حلف الأطلسي بالغارات على أرتال القذافي وسلاحها السوفياتي. لن يسمح بتكرار تلك المشاهد، وبوقوف روسيا عاجزة كأنها قوة من الدرجة الثانية. لن يسمح على الإطلاق بتكرار ذلك المشهد المخزي في شارع أربات في موسكو. مشهد أكوام من بزات ضباط «الجيش الأحمر» تباع مع أوسمتها بحفنة من الدولارات للسياح والشامتين.
ينظر إلى الساعة. الغرب خائف. لكنه لا يملك إرادة الحرب. يكرر معزوفة «العواقب الوخيمة» و«الثمن الباهظ». يضحك. حين يغزو الخوف بلاداً قد يغنيك عن إرسال الجيش إليها. ها هو الغرب تحول أسيراً في الفخ الأوكراني. التخويف يساعدك على تحويل دولة جارة إلى رهينة وإملاء شروطك للإفراج عنها. إرغام حلف «الناتو» على التنازل عن حلم التوسع مقدمة لإرغامه على الانكفاء من المواقع التي كسبها حين كانت روسيا مدفونة تحت الركام السوفياتي. في احتجاز الرهائن يمكن اقتياد دول كبرى إلى أقفاص صغيرة بسبب خوفها على مواطنيها. الغرب محتجز اليوم داخل القفص الأوكراني.
زوّده المستشارون بالتعليقات الغربية. هذا يقول إنه يمارس لعبة الروليت الروسية. وذاك يقول إن التنازل له خطر، تماماً كما كان استرضاء هتلر. وثمة من يزعم أنه بات منفصلاً عن الواقع، وأن لعبته قد تدمي العالم وبلاده معاً. يحتقر القيصر خصومه، وأحياناً يحتقر حلفاءه. ليس صحيحاً أنه متهور. تجربة استعادة القرم كانت اختباراً ناجحاً. ومثلها تجربة التدخل العسكري في سوريا. يتذكر حديث باراك أوباما عن الخط الأحمر في سوريا، وكيف نجح سيرغي لافروف في خداع واشنطن. لن يستطيع بايدن الوافد من عباءة أوباما رسم خط أحمر على الحدود الروسية - الأوكرانية.
الثأر شعور ممتع حين تكون قوياً. إنهم يستقيلون من أوكرانيا. هذا يسحب دبلوماسيّيه، وذاك يسحب مستشاريه العسكريين. زمن الفرار من أوكرانيا. يفكر في الرئيس الجالس في كييف. مخرج وممثل، لكنه لم يتوقع أبداً مواجهة مسلسل روسي بمثل هذه القسوة والإتقان. يتذكر. حين ولد فلاديمير زيلينسكي، كان هو يقيم في عالم الـ«كي جي بي» الغامض والصارم.
معركة حاسمة. على الطاولة صورته وصورة بلاده. ما أصعب التراجع. يراهن على انشغال الأميركيين بـ«الخطر الصيني». يراهن على خوف الأوروبيين من الصواريخ وجنازير الدبابات. لن يتنازل على رغم الزيارات الغربية واتصالات سيد البيت الأبيض. هدف الانقلاب الكبير إقناع العالم أن أميركا فقدت أنيابها. لهذا حرص على تظهير المحور الصيني - الروسي قبل دفع الأزمة الأوكرانية إلى القمة.
فصل جديد في حياة العالم. إذا نجح بوتين في تحويل أوكرانيا فنلندا جديدة، فلماذا تقبل الصين ببقاء تايوان المستقلة شوكة في خاصرتها؟ وإذا نجح الانقلاب الكبير، فماذا سيستنتج الزعيم المحبوب في كوريا الشمالية؟ وإذا كان يحق للقوي أن يملي خياراته على جيرانه، فماذا ستستنتج إيران وتركيا وكل الدول التي تنظر إلى حدودها الحالية، وكأنها ثوب ضيق أرغمها الظلم على ارتدائه؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بوتين في «أم المعارك» بوتين في «أم المعارك»



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 02:16 2018 الثلاثاء ,25 أيلول / سبتمبر

أحدث صور مطابخ عصرية و إرشادات قبل تصميمها

GMT 23:25 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

الحدادي يكشف عن سر التحاقه بالمنتخب وروسيا

GMT 20:05 2019 الأربعاء ,20 آذار/ مارس

ألبا يدافع عن قرار بيكيه باعتزال اللعب الدولي

GMT 19:36 2018 الأحد ,07 كانون الثاني / يناير

"عاليات الهمة" مخيم دعوي نسائي بمكتب الدعوة في أبوعريش

GMT 15:46 2018 الأحد ,07 كانون الثاني / يناير

رد محتشم من الأمم المتحدة على انتهاكات البوليساريو

GMT 08:09 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

بن عتيق يكشف آخر تطورات أزمة المغاربة العالقين في ليبيا
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca