مفكرة القرية: هي والعتبة

الدار البيضاء اليوم  -

مفكرة القرية هي والعتبة

سمير عطا الله
بقلم : سمير عطا الله

كل من استطاع الهجرة إلى بلاد الرزق فيما وراء البحار، تدبر ثمن «الناولون» وركب البحر والمجهول وسافر. وبعضهم وعد بالعودة ولم يعد. وهؤلاء تداعت بيوتهم من تلقاء نفسها حزناً على الفراق وألماً من الوحدة. وعندما تكون البيوت مأهولة تسمى باسم أصحابها: بيت عيد، وبيت أبو سليمان. لكن عندما يسافر أهل المنازل ويتركونها للشمس والسقوط، يضاف إلى الاسم شرحه: خربة بيت عيد، وخربة أبو سليمان.
تنتشر بين البيوت القائمة خرائب وجدران نصف قائمة. وثمة بيوت تنتظر هذا المصير. سافر صاحبها، أو أصحابها، من الرجال وتركوا شقيقة أو زوجة، على أساس أن يطلبوها إليهم، أو يعودوا إليها عندما «يتم التوفيق». والتوفيق لم يكن مضموناً دائماً. فلا هم عادوا ولا منتظرات الرجاء حل رجاؤهنَّ. وبعد سنين سوف يصبح الانتظار عادة، ثم غياباً ثم خراباً.
لطيفة، كان بيتها أول الضيعة، إلى اليمين وأنت آتٍ، وإلى اليسار وأنت خارج. سافر أشقاؤها إلى ميشيغان، حيث معظم مهاجري القرية، وكانوا يرسلون إليها مصروفها، لكنهم لم يرسلوا يدعونها. فقد وشم حياتها كِسرٌ في الساق لا يشفى، فلم يعد بمقدورها أن تسير أبعد من الباب. وهكذا، كانت تخرج في الصباح وتجلس على العتبة. وكل من كان طالعاً، أو نازلاً، كان يمر بها. وكان يلقي عليها التحية، رجلاً أو فتى أو امرأة. فالتحية على «الخالة لطيفة» كانت في أهمية صدقة. لكن أيا كان السابل المار، لم تكن لطيفة لتكتفي بالتحية. سوف تسأل، في الصباح أو المساء، أو الضحى، أين كان وإلى أين هو ذاهب، ومن ينوي أن يلتقي ولماذا. ومع الوقت اعتاد المارة ألا يجيبوا عن الأسئلة. لكن لطيفة ظلت مصرّة عليها. تريد التحدث. عن أي شيء. مع أي كان. تريد أن تبدد وحدتها. ولم يكن لديها راديو، ولم يكن قد ظهر التلفزيون بعد، ولم تسمع أغنية إلا في أعراس الضيعة، ولا عرفت بآلة موسيقية سوى ناي الرعيان، ولا قرأت جريدة، ولا حملت هوية. ولا شيء سوى وحدتها، هي والعتبة. أما داخل البيت، فلم يعرف أحد ماذا فيه سوى الموقدة لأن الموقدة لها دخان، وعندما يشتد البرد وتضطر إلى ملازمة الموقد ولا تعود قادرة على الخروج إلى العتبة، ولا يعود هناك مارة حتى الراعي، يعرف أهل القرية أن لطيفة ما زالت موجودة من منظر المدخنة.
وكان الدخان يصعد خفيفاً ضئيلاً. ليس لأن لطيفة لا تملك ثمن ما يكفي من الحطب، بل بسبب الإرهاق في حمله.
كانت لطيفة بلا أحد. وفي الشتاء كان ينقص عدد البيوت المأهولة. قسم «ينزل» إلى بيروت، والقسم الذي يبقى من رعيلها، لا أحد يسأل عنه في الوطن ولا أحد يعرف عنه في المهجر. جسر العزلتين في هذه الضيعة. من عزلة الشباب إلى عزلة الشيخوخة. وعندما توفيت لطيفة، لم يكن أحد يعرف ما هو عمرها، أو يهتم بذلك. لكن النبأ انتشر بسرعة مع هواء الصنوبر. وتراكض نحو منزلها المعمرون الذين أرادوا أن يعرفوا «كم» تركت في مخابئها السرية، وأن يمدوا أيديهم إلى ما استطاعوا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مفكرة القرية هي والعتبة مفكرة القرية هي والعتبة



GMT 20:42 2025 الخميس ,07 آب / أغسطس

شاعر الأندلس لم يكن حزيناً

GMT 20:40 2025 الخميس ,07 آب / أغسطس

كي لا تسقط جريمة المرفأ بالتحايل

GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

جورجينا تثير اهتمام الجمهور بعد موافقتها على الزواج وتخطف الأنظار بأجمل إطلالاتها

الرياض - الدار البيضاء اليوم

GMT 00:01 2018 الأربعاء ,16 أيار / مايو

دجاج على الطريقة الصينية "دجاج كانتون"

GMT 22:00 2017 الأربعاء ,19 تموز / يوليو

الارشيف الوطني ومشجب أسرار الدفاع الوطني

GMT 03:34 2017 الثلاثاء ,10 كانون الثاني / يناير

طرح منزل الكشافة بادن باول للبيع مقابل 3.5 مليون استرليني

GMT 16:43 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

متشرد يوقف "طرامواي’" الدارالبيضاء في الحي المحمدي المغربي

GMT 11:24 2018 الجمعة ,14 كانون الأول / ديسمبر

وفاة الفنان حسن كامي والفنانون ينعوه برسائل مؤثرة

GMT 06:35 2018 الخميس ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر نفط عُمان يرتفع الى 71.14 دولار الخميس

GMT 12:44 2018 الأحد ,14 تشرين الأول / أكتوبر

هوجو جاستون يحرز ذهبية التنس في أولمبياد الشباب

GMT 07:00 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

ألوان ظلال الجفون "الصارخة" تسيطر على موضة الخريف

GMT 22:22 2018 السبت ,14 تموز / يوليو

اكتشفي طرق سهلة و مريحة لتنظيف أواني الطهي

GMT 07:08 2018 الجمعة ,06 تموز / يوليو

تعرف على سبب تسمية الجامع الأزهر

GMT 04:42 2018 الخميس ,14 حزيران / يونيو

حجز أدوية مهربة وغير مرخصة في بني ملال

GMT 17:41 2018 الأحد ,27 أيار / مايو

نجوم الكرة يتعاطفون مع النجم صلاح

GMT 08:51 2018 السبت ,19 أيار / مايو

6 حلول فعالة لعلاج قشرة الشعر الموسمية
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
RUE MOHAMED SMIHA,
ETG 6 APPT 602,
ANG DE TOURS,
CASABLANCA,
MOROCCO.
casablanca, Casablanca, Casablanca