أزمة قيادة السنّة في لبنان... أمام المجهول

الدار البيضاء اليوم  -

أزمة قيادة السنّة في لبنان أمام المجهول

إياد أبو شقرا
بقلم : إياد أبو شقرا

بصراحة، لا بد من القول إنه لم يسبق للمسلمين السنّة في لبنان أن وجدوا أنفسهم في محنة سياسية كالمحنة الحقيقية التي يجدون أنفسهم فيها اليوم.
قد يقول قائل إن جميع اللبنانيين، وليس السنّة وحدهم، يواجهون مؤامرة احتلالية هدفها المعلن تغيير هوية لبنان نهائياً…. ثم، يُقرن القول بالفعل.
وقد ينبري آخر للتذكير بأن المحنة التي يتعرض لها السنّة في لبنان لا تقتصر على لبنان وحده، فها هم في العراق، الذي قادوا مشروع تأسيسه، باتوا أقلية مهمشة... وأحياناً «مدعشنة» ومخوّنة، حين وحيث مصلحة قيادة «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني.
وماذا عن سوريا، التي لعبت نخب غالبيتها السنّية دوراً بارزاً في تأسيسها… قبل مرحلة «عسكرة السياسة» و«ترييف المدن» و«تطييف التقدمية المزعومة»؟ ألم يدفع السنّة أعلى أثمان الانقلابات ويتعرّضوا لأفدح الخسائر البشرية في مؤامرة التطهير المذهبي التي قضت منذ 2011 على نحو مليون وتهجير 12 مليوناً، جلّهم من مدن السنّة وأريافهم؟
كما نعرف، عندما رُسمت خريطة كيانات الشرق الأدنى عام 1920 كان القرار الفصل بيد القوى الأجنبية الكبرى التي شكّلت عماد «النظام الدولي الجديد» بعد الحرب العالمية الأولى. ومع الاحترام للجميع جاء إنتاج بعض هذه الكيانات «جائزة ترضية» أو «رسالة طمأنة» أو «تسوية مؤقتة» أو «تأجيلاً لاستحقاق»...
كثيرون من سكان المناطق التي غدت «حدودية» لم يُستشاروا حول أي كيان يفضلون الانتساب إليه. ومناطق عدة كانت تاريخياً وديموغرافياً - بل حتى عشائرياً - بيئة واحدة قسّمت على كيانين أو أكثر. وبمرور السنين وتطور المجتمعات الجديدة واتجاهات المصالح فيها، نشأت قوى وتنظيمات تعبّر عن هذه المصالح والجماعات المرتبطة بها.
ولكن، منذ 1920 تغيّرت شروط اللعبة السياسية في الكيان الجديد الذي عُرف بـ«لبنان الكبير» لتمييزه عن «لبنان الصغير»... أي «متصرفية جبل لبنان» العثمانية (1861 - 1918) المتمتعة بحكم ذاتي خاص، وذات الغالبية السكانية المسيحية.
وكما يعرف المطلعون على تاريخ لبنان الحديث طالب عدد من القادة اللبنانيين، وبالأخص من المسيحيين، إبان المؤتمر الذي استضافته فرنسا لتقاسم إرث الدولة العثمانية في المشرق العربي، بكيان لبناني مستقل قابل للحياة. وبناء على طلبهم وافقت القوى الأوروبية الكبرى على ضم مناطق إضافية شمالاً وشرقاً وجنوباً إلى «المتصرفية» السابقة... وبالذات من ولايتي دمشق وبيروت، كما ضمت إلى الكيان الجديد مدينة عاصمة الولاية التي تحمل اسمها.
أيضاً، كما يعرف المطلعون على تلك الحقبة من تاريخ لبنان، أدت إضافة المناطق المضمومة عام 1920 إلى تغيير كبير في أحجام الطوائف الدينية في الكيان الجديد. وبعدما كانت للمسيحيين غالبية كبيرة على الدروز فالسنّة والشيعة، طرأت زيادتان كبيرتان على حجمي السنّة والشيعة خففتا كثيراً الثقلين السكاني والسياسي للمسيحيين.
من ناحية ثانية، كان الطابع «المديني» هو الغالب على سياسات النخب السنّية في لبنان، وشكّل تواصلاً وتقاطعات وزيجات متبادلة بين هذه النخب وقريناتها في مدن الداخل السوري وفلسطين. كذلك، أسهم في إطلاق الحركات القومية العربية أبناء الأسر السنّية في المدن الكبرى من بيروت وطرابلس واللاذقية وصيدا والقدس غرباً... إلى دمشق وحلب وحمص وحماة، بل... وحتى بغداد والموصل شرقاً. وبالفعل، كان الولاء السنّي «المديني» البورجوازي متجسداً بصورة أو بأخرى بمفهوم العروبة... ومتمرداً على واقع «سايكس – بيكو» ورافضاً له.
في المقابل كانت «الحالة الشيعية» في لبنان مختلفة تماماً. ورغم بروز عدد من الأفراد الشيعة من شرق لبنان وجنوبه في التيارات القومية العربية، فإن السمة الغالبة على البيئة الشيعية في جنوب لبنان كانت الإقطاعية الزراعية الريفية، تقابلها الوجاهة العشائرية في سهول البقاع الشمالي وجرودها النائية والعاصية لفترات طويلة على سلطة الدولة.
صيغة 1920، التي أضعفت الدروز وكادت تقضي على نفوذهم لولا مرونة عصبيتهم وتماسكهم، أوجدت تفاهماً شارك فيه المسيحيون وسنّيو المدن وشيعيّو الإقطاعين الريفي والعشائري.
واستمر الوضع متأرجحاً بين توازنات الطوائف وحساباتها المصلحية، وبينما كان الرهان المسيحي على تزايد النفوذ الأوروبي - الأميركي عالمياً، اعتمد السنّة على عمقهم «القومي العربي»، وصمد الإقطاع الشيعي حتى أواخر عقد الستينات... وسط اتساع الهوة الديموغرافية، وتهميش المناطق النائية والحدودية – ومعظمها شيعية وسنّية – أمام نهضة اقتصاد الخدمات وازدهار بيروت. ومن ثم، في حين كان «المد الناصري» حتى 1967 رافعة للسنّة، صار اليسار ملاذاً للكادحين الشيعة... سواءً من الموجودين في المناطق النائية أو الزاحفين للاستقرار في «أحزمة البؤس» حول بيروت.
بعدها، في مطلع السبعينات كانت قد ظهرت خريطة لبنانية جديدة أفرزت لاحقاً حرباً مدمرة طالت 15 سنة؛ إذ ازداد اليمين الراديكالي المسيحي قوة بعد أفول الناصرية، وارتبك الوضع السنّي قليلاً قبل أن يقفز لتبني المقاومة الفلسطينية بديلاً للناصرية. أما الشيعة فقد بدأت معركة شرسة للإمساك بقرارهم بين اليسار التقليدي ضمن أحزاب «الحركة الوطنية» والرد الديني بشقيه «المعتدل» بداية مع الإمام موسى الصدر، و«المتشدد» لاحقاً مع الملالي الراديكاليين وحرسهم الثوري.
واليوم، رغم وجود معارضة شيعية، يهيمن «الملاليون» بالقوة تحت رايات «حزب الله» على القرار والمشهد في لبنان «المحتل إيرانياً»، وتتولى «أمل» الصدرية دوراً ثانوياً يخدم استراتيجية العلاقات العامة.
مقابل ذلك، ينقسم المسيحيون بين: منخرطين في حلف أقليات ضد «البحر السنّي»، ومقاومين للاحتلال ولكن عبر المشاركة سياسياً في الانتخابات، وفريق ثالث يرى المقاطعة ويطلب الحياد والتدخل الخارجي.
غير أن البيئة السنيّة هي الآن بؤرة الاهتمام والقلق الأكبر. فالمسلمون السنّة يعيشون، فعلياً، حالة ضياع في أعقاب إخراج «تيار المستقبل» نفسه من المعادلة السياسية، ورفضه تزكية أي مرشحين.
لقد ارتكبت القيادات السنّية أخطاء فادحة خلال السنوات القليلة الفائتة. وبسبب هذه الأخطاء فقدت ثقة جزء مهم من رصيدها عربياً، من دون أن تستفيد في المقابل من الدعم المأمول من القوى الغربية... المتحمسة لعقد صفقة مع طهران.
وبالتالي، بسبب الأخطاء، وتغيّر الأولويات الدولية، والانقسامات الداخلية المتغذية من مطامح وحزازات شخصية، قد تتاح الفرصة الآن أمام المشروع الإيراني، ممثلاً بـ«حزب الله»، لاختراق البيئة السنّية بمرشحين «تابعين» له، وتعزيز قبضته على البرلمان بعد الحكومة، وفرض مَن يريد رئيساً للجمهورية في نظام يبدو أكثر فأكثر مستنسخاً من نظام «المرشد الأعلى» في إيران.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أزمة قيادة السنّة في لبنان أمام المجهول أزمة قيادة السنّة في لبنان أمام المجهول



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 20:17 2017 السبت ,25 شباط / فبراير

"اللف والدوران"

GMT 00:03 2018 الإثنين ,19 شباط / فبراير

أفضل الأماكن في ماليزيا لقضاء شهر عسل لا يُنسى

GMT 13:18 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

أفكار مبتكرة لإدخال اللون الأصفر على مطبخك

GMT 14:18 2018 الخميس ,11 كانون الثاني / يناير

ّأسامة فاضل يؤكد أن "صباح الخير" فيلم لكل أفراد الأسرة

GMT 16:38 2018 الأربعاء ,10 كانون الثاني / يناير

انجراف التربة يؤدي إلى قطع الطريق بين شفشاون والحسيمة

GMT 04:31 2018 السبت ,06 كانون الثاني / يناير

سقوط طفلة في بالوعة مفتوحة في بني بوعياش

GMT 03:33 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

توقعات الفلكي الأردني عبود قردحجي للأبراج لعام 2018 بالتفصيل

GMT 04:19 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

خبراء يعلنون عن أدلة تُظهر استقرار سفينة نوح على جبل أرارات

GMT 06:51 2017 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

ميشيل ويليامز تلفت الأنظار إلى إطلالاتها الساحرة

GMT 03:11 2015 الثلاثاء ,20 تشرين الأول / أكتوبر

شابة أميركية تحقق حلمها وتمتهن التصور الفوتوغرافي الجوي

GMT 08:13 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

فوائد سمك السلمون المدخن

GMT 18:03 2017 الجمعة ,13 تشرين الأول / أكتوبر

رومان رينز يعتبر عداوته لسينا أفضل ما حدث له

GMT 16:15 2016 الثلاثاء ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

نانسي عجرم في معراب تحضيرًا لمهرجانات الأرز صيف 2017

GMT 02:13 2017 الثلاثاء ,26 أيلول / سبتمبر

غطاء "أيفون 8" الزجاجي صعب الإصلاح حال تحطّمه

GMT 21:11 2016 الخميس ,28 تموز / يوليو

الإيرلندية جوانا ريني أفضل لاعبة كمال أجسام
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca