هل نودّع السينما الإيرانيّة؟

الدار البيضاء اليوم  -

هل نودّع السينما الإيرانيّة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

في 2021/6/18 شوهدت أربع من الأسنان الأماميّة في فم إبراهيم رئيسي. الرجل الذي لا يضحك ضحك. لقد اختير رئيساً لإيران. الفنّانون والسينمائيّون تحسّسوا رقابهم: بطل إعدامات 1988، صار رئيساً. قرابة خمسة آلاف رجل وامرأة أعدموا عامذاك ونُثرت جثثهم في أمكنة مجهولة. القليل الذي رشح عن آرائه الفقهيّة ضاعف المخاوف.
عامل آخر كان يعزّز هلع السينمائيّين: ذاك أنّ الشطر الذي يمكن وصفه بالواقع الحياديّ اختفى. الأزمة الاقتصاديّة لم تترك شيئاً قابلاً للتصوير الذي تتحمّله الدولة. الطبيعة والأطفال مثلاً، وهما من موضوعات السينما الإيرانيّة، صار من الصعب تناولهما وفي الوقت ذاته حجب تداعيات الأزمة عليهما.
خوف الخائفين تأكّدت صحّته بأسرع ممّا ذهبت التوقّعات: في مايو (أيّار) الماضي، وقبل أيّام على مهرجان كان للسينما، أُوقف عدد معتبر من صانعي الأفلام الوثائقيّة. في يوليو (تمّوز)، اعتُقل محمّد رسولوف ومصطفى علي أحمد، وحين حاول جعفر بناهي الاستفسار عن زميليه ضُمّ إليهما. الثلاثة من كبار سينمائيّي إيران، حصدوا عدداً من الجوائز العالميّة لكنّهم لم يتمكّنوا دائماً من تسلّمها بسبب منعهم من السفر. لماذا اعتُقلوا؟ لأنّهم كتبوا رسالة مفتوحة تحتجّ على فساد السلطة وقلّة كفاءتها كما بيّنَ انهيار مبنى في عبادان قضى فيه 49 شخصاً. الرسالة طالبت بمحاسبة المسؤولين ودعت قوّات الأمن إلى «إلقاء سلاحها» في مواجهة الغضب الشعبيّ. في أغسطس (آب) الماضي، صدرت لأوّل مرّة في إيران «لائحة» رسميّة بأسماء السينمائيّين الممنوعين من ممارسة السينما.
موضوع السينما ذو أهميّة خاصّة. فإيران نجحت في استثمارين وحيدين يُعنى بهما الخارج: واحد شرّير هو «حزب الله» وآخر خيّر هو السينما.
هذا، على أيّة حال، لم يتحقّق بسهولة.
والحال أنّ ثورة 1979 بدأت بحدث سينمائيّ. فتيمّناً بحريق الرايخستاغ الألمانيّ (2/1933) وحريق القاهرة المصريّ (1/1952)، أُحرقت سينما ركس في عبادان (8/1978) وقضى عدد قُدّر بـ377 شخصاً في الحدّ الأدنى و470 في الحدّ الأقصى. الحكمة المعمول بها لدى الثوريّين هي أنّ إثارة الذعر والقلق والضياع تعبّد طريق الاستيلاء غير الشرعيّ على السلطة. المكروهون الذين يُقدَّمون كأضاحٍ هم: البرلمان في ألمانيا التي ما لبث أن حكمها هتلر، والمدينة في مصر التي ما لبث أن حكمها «الضبّاط الأحرار»، والسينما في إيران التي ما لبث أن حكمها الخمينيّ.
وإيران، قبل الثورة، عرفت السينما. في 1930 أنتجت أوّل فيلم صامت، لكنّ السبعينات سجّلت تبلورها ونضجها، حيث ازدهرت «الموجة الجديدة» مقلّدةً مثيلتها الفرنسيّة (تروفّو، غودار، شابرول...). ثمّ في 1973 افتُتح مهرجان دوليّ للسينما في طهران. رقابة النظام الشاهنشاهيّ لم تكن بسيطة، لكنّها تبدو، بقياس الرقابة الإسلاميّة اللاحقة، أشبه بألعاب الأطفال.
والثورة كرهت السينما لأنّها «غير أخلاقيّة وغربيّة». لكنّها، مع هذا، رعت صناعة أفلام دعائيّة قصيرة ضدّ «الشيطان الأكبر» خلال المواجهة مع الولايات المتّحدة بعد احتجاز الرهائن الأميركيّين، ثمّ في الحرب مع العراق أضيف «شيطان» عراقيّ أصغر إلى الأجندة السينمائيّة المتواضعة.
في هذه الغضون طرأ حدث غير متوقّع يرويه الصحافيّ الكنديّ شاين سميث في عمله الوثائقيّ عن السينما الإيرانيّة: بينما كان الخمينيّ يشاهد التلفزيون ذات مساء إذا بفيلم اسمه «البقرة» يحتلّ الشاشة. الفيلم كان واحداً من الأفلام النادرة العائدة إلى العهد الملكيّ التي سُمح لها بالبقاء. إنّه يخلو من كلّ ما مَقتَه الخمينيّ، ويدور حول المشاكل الفعليّة للناس البسطاء. آية الله علّق قائلاً إنّه ليس ضدّ السينما، بل ضدّ الاختلاط الجنسيّ. نطقُه بهذه العبارة بدا كافياً لانطلاق السينما في إيران.
بفضل تلك العبارة أتيح لها أن تنمو وتتقدّم، شريطة أن تبتعد عن المحظورات العديدة: كلّ ما يتعلّق بالدولة وأجهزة الأمن، وهو كثير جدّاً. كلّ ما يتعلّق بـ«الأخلاق» واتّصال الجنسين واحتشام الأجساد. كلّ ما لا يبدو متقيّداً بالشريعة وفق تأويلها السائد. التصوير يُستحسن إذاً أن يُجرى في دواخل البيوت والغرف، وفي الطبيعة...
في 1983 بدأت السلطة تدعم صناعة السينما ماليّاً. في الثمانينات والتسعينات باتت الأفلام الإيرانيّة تحضر مهرجانات السينما العالميّة، وشرع مبدعون إيرانيّون يحصدون جوائز. عهد محمّد خاتمي (1997 - 2005) وسّع رقعة الحرّيّة المتاحة. مع بدايته نال فيلم عبّاس كيروستامي «طعم الكرز» جائزة «السعفة الذهبيّة» في «كان». بعد عام حظي فيلم سميرة مخملباف «التفّاحة» بشهرة عالميّة... العالم احتفل بالاثنين، بخاتمي وبالسينما، والأخيرة صارت أجرأ فتناولت النساء المقهورات والجنود الذين خاضوا الحرب مع العراق والفقراء واللاجئين الأفغان. المرأة تزايد حضورها في صناعة السينما ممثّلةً وكاتبةً ومنتجةً ومخرجةً.
عهد محمود أحمدي نجاد (2005 - 2013) أعاد تضييق رقعة الحرّيّة، لكنّ قرصنة الأفلام ونسبة الساتلايت المرتفعة في البلاد حالتا دون انقطاع صلة الجمهور بالأفلام الأجنبيّة. الإيرانيّون اللاجئون والمهاجرون، الموزّعون بين لندن ولوس أنجليس، أبقوا أقاربهم على بيّنة ممّا يجري في العالم. في 2009، سُمح لوفد من هوليوود بزيارة طهران لكنّه طولب بـ«الاعتذار عن إساءات لإيران».
مع انتهاء عهد نجاد دُعي مخرجون وممثّلون ومحكّمون سينمائيّون أميركيّون إلى طهران. لكنّ الأمور لم تتقدّم كثيراً في ظلّ رئاسة حسن روحاني (2013 - 2021). صحيح أنّه أعاد فتح «بيت السينما الإيرانيّة» بعد إغلاقه عشرين شهراً في ظلّ نجاد، لكنّ القاعدة العامّة ظلّت: خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء، ثمّ خطوة إلى الوراء وخطوتان إلى الأمام، وهكذا...
اليوم، مع رئيسي، تتبلور قناعة مؤسفة هي أنّ ازدهار السينما الإيرانيّة كان غريباً وشاذّاً. احتضارها، في ظلّ نظام كهذا، هو القاعدة والمُتوقَّع.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل نودّع السينما الإيرانيّة هل نودّع السينما الإيرانيّة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 08:05 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

أزياء أسبوع ميلانو لموضة الرجال جريئة ومسيطرة

GMT 06:29 2017 السبت ,16 كانون الأول / ديسمبر

منع أقدم سجناء "غوانتانامو" من قراءة كتاب دون أسباب

GMT 12:15 2018 الإثنين ,06 آب / أغسطس

"ثقافة الإسكندرية" تعلن عن إصدار 4 كتب جديدة

GMT 09:23 2018 الثلاثاء ,26 حزيران / يونيو

النمر التسماني يظهر مجددًا بعد الاعتقاد بانقراضه

GMT 10:40 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

الزخرفة تميز "دوتشي آند غابانا" في صيف 2018

GMT 11:44 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

وزير الفلاحة والصيد البحري يصل إلى مدينة جرادة

GMT 05:38 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

كتاب جديد يشرح خبايا السيرة الذاتية لبيريغيت ماكرون

GMT 05:51 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

حمادة هلال يطرح كليب "حلم السنين" في عيد الحب المقبل

GMT 07:18 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

نظام تعليمي إنجليزي متطور يمنح الشهادة الجامعية في عامين

GMT 16:56 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

مصطفى أوراش يوجه أسئلة محرجة لرئيس طانطان لكرة السلة

GMT 10:43 2017 الإثنين ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية مالم تعد من أجمل الأماكن لجمع العائلات وقضاء العطلات

GMT 01:00 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

شخص يحتجز نجله داخل غرفة في مكناس لمدة 3 سنوات

GMT 09:59 2017 الأحد ,22 كانون الثاني / يناير

دراسة حديثة تُعلن أن الغضب المكبوت يُسبّب السرطان

GMT 08:42 2015 الجمعة ,11 أيلول / سبتمبر

تنافس تسع فنادق عالمية على جائزة أفضل تصميم
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca