للأزمات إيجابيات أيضاً

الدار البيضاء اليوم  -

للأزمات إيجابيات أيضاً

آمال موسى
بقلم : د. آمال موسى

مسار الإنسان وطريقة تعامله مع المشكلات التي تعترضه يشبه إلى حد كبير مسار الدول والمجتمعات أيضاً. فالمشكلة تُقوّي الإنسان، وفي هذا المعنى تندرج مقولة: إنّ الضربة التي لا تقتل تقوّي. بل إنّه من غير الممكن قياس القدرة والإرادة واكتشاف الكفاءة وقوة المناعة بأبعادها المختلفة النفسية والصحية إلا من خلال الأزمات، التي يمكن أن تعترض طريق الفرد أو المجتمعات أو الدول.
طبعاً لسنا بصدد تقديم مديح للأزمات، فهي مقوّم من مقومات وجود الحياة ذاتها، الأمر الذي يحتّم التعامل معها ضمن مكونات الواقع وتحديد استراتيجيات للدفاع عن الإنسان والمجتمع والدولة ضد الأزمات.
في هذا السياق نشير إلى أزمة جائحة «كورونا» التي أربكت العالم وأدخلته في حالة فزع وصدمة، بدأنا نتجاوزها من خلال التكيف والتدرب على التعايش والقبول بها واقعاً.
وإذا أردنا تكثير إيجابيات جائحة «كورونا» رغم طابعها المأساوي وما خلّفته من أحزان في قلوب ملايين من البشر الذين فقدوا أحباءهم، إضافةً إلى الذين تضرروا اقتصادياً من فقدان عملهم، فإن الأمر يبدو لنا ممكناً جداً.
أول إيجابية جديرة بالإشارة أن هذه الجائحة أظهرت بالنسبة إلينا كدول عربية طبيعة النقائص الموجودة بشكل دقيق وقابل للقياس. وهذا أمر مهم للغاية خصوصاً أمام غياب الدراسات الكميّة. عرفنا النقائص في قلب الأزمة وأدركنا الملفات ذات الأولوية بالمعالجة وإيجاد الحلول. تم التعرف إلى مشكلات البنية الصحية وواقع الخدمات في هذا المجال. وتبين للجميع واقع التعليم، وإلى أي مدى يمكن الرّهان على التعليم عن بُعد في الأزمات، وهل الأموال التي تنفَق منذ سنوات طويلة حول التعليم عن بُعد قابلة للتوظيف حقاً في الأزمات وللتعميم على الطلبة أم أن المسألة جزئية وما زالت تحتاج إلى رفع التحديات وتجاوز العقبات الكثيرة؟
بسبب جائحة «كورونا» أدركنا مجدداً كم هي الأمور مترابطة ومتشابكة، حيث إن الفقر والتخلف الرقمي وهشاشة القطاع الخاص، تمنع بناء مناعة ومنوال صامد ضد الأزمات. فنسب الفقر وأشكاله وأيضاً ظاهرة البطالة وتفاقمها وتواضع أداء القطاع الخاص في معظم الدول العربية، تجعل العديد من المجالات الحيوية تقع في أزمة عميقة في فترة الأزمات.
لعل المشكلة الأكبر أن القطاع الخاص لم يعرف كيف يثبت أنه ينتمي إلى المجتمع الذي يخلق الثروة منه وبفضله. لقد كان أداء القطاع الخاص ضيقاً، حيث اكتفى بمشكلاته، والحال أن الكثير من بلداننا انخرطت في تشجيع القطاع الخاص وبدأت الدول تخفف من تدخلاتها لفائدة رأس المال الخاص.
وفي هذا السياق وجدت الدول نفسها معنية باستعادة دورها الاجتماعي الكبير في القطاعات الحساسة مثل الصحة والتعليم. ذلك أن القطاع الخاص في غالبيته أسهم في تعميق تداعيات الأزمة سواء من خلال غلاء الأسعار أو التكلفة الباهظة جداً لمعالجة مرضى «كورونا» أو تسريح العمال والموظفين في قلب الأزمة وخلق أزمة اجتماعية. هنا طبعاً نطرح مسألة دور القطاع الخاص في مرحلة الاستقرار وفي فترة الأزمات، وهي قضية من المهم التفكير فيها وطرحها للنقاش العمومي وأيضاً من المهم وضع مخرجات واضحة وملزمة.
وإلى جانب ذلك لا مفر من استعادة الدولة في بلداننا للدور الاجتماعي بأكثر قوة في التعليم والصحة وأن تتريث المضيّ بسرعة نحو الخوصصة.
أيضاً من إيجابيات الأزمات أن النخب التي تتعاطى بالأساس مع المقولات والأفكار والنظريات الفكرية الكبرى، قدمت لها أزمة «كورونا» فرصة ذهبية للملاحظة ولإسقاط الأفكار الكبرى على أرض الواقع والتجربة، ومن ثم القيام بالتعديل اللازم بقوة الواقع. وهي مسألة مهمة جداً لأنها تضفي حيوية على الخطاب الفكري الفوقي، وتجعل الواقع يدب فيه مما يخلق علاقة قرب من الناس ومع الفكرة ذاتها، وكل هذا يصب في رصيد النخب التي تعرف أزمة دور وأزمة تأثير. من هذا المنطلق فالأزمات هي فرصة لا تلتقطها إلا النخب الذكية التي فعلاً تريد أن تؤدي دوراً حقيقياً في الإصلاح وفي النقد.
لنقل إن الأزمات تجعل من كل النقائص ظاهرة للعيان. الأزمات تهزم ثقافة الشعارات وتفرض على الجميع الواقعية. وكم نحن فعلاً في حاجة إلى الواقعية البناءة التي تجعلنا نتصالح مع الواقع من دون أن نقبله كما هو. هو تصالح بمعنى الاعتراف به وبكل ما يعتريه من ثغرات ونقائص.
الوجه الذي يهمنا من الأزمات ليس الذي يُوجع ويُربك ويُظهر مَواطن الضعف، بل إن الأهم هو ما تقدمه لنا الأزمات من حقائق وما تكشفه لنا من ترتيب جديد للأولويّات ومن برامج تحتاج إلى إعادة نظر وأيضاً من مخططات وتوجهات كبرى لا مفر من كبح جماحها وتعديل معدل السرعة فيها.
الأزمات فرصة أيضاً ولكن بشرط حسن التقاط الفرصة واستنفار كل ملكات الانتباه والجدية في الانتباه.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

للأزمات إيجابيات أيضاً للأزمات إيجابيات أيضاً



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 14:46 2018 الثلاثاء ,24 تموز / يوليو

دراسة تكشف عن 9 مهن تقود أصحابها للخيانة الزوجية

GMT 07:22 2018 الأربعاء ,31 كانون الثاني / يناير

"دي باريس" يحيي جناح أميرة موناكو بتجديدات فخمة

GMT 23:21 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

الملقب بـ"حبيلو" مُصنّف خطر في قبضة شرطة فاس‎

GMT 03:50 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

إغلاق صحيفة الأطفال الوحيدة في أستراليا لمشاكل مادية

GMT 04:41 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

"Nada G" للمجوهرات الثمينة تُعلن عن مجموعة "بلاط بيروت"

GMT 02:49 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

المغامرات التي يجب خوضها أثناء زيارة مملكة كامبوديا

GMT 15:11 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

الطالبي العلمي يؤكد أن ملعب البيضاء لن يكون جاهزًا قبل 2022

GMT 08:51 2017 الإثنين ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

سيدة هندية تبيع رضيعها من أجل دفع "فاتورة إدمان" زوجها

GMT 08:01 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مغارات "بني عاد" وجهة سياحية مفضلة خلال العطلة الشتوية

GMT 04:58 2015 السبت ,09 أيار / مايو

حجز 12600 لتر بنزين على متن شاحنة في صفرو

GMT 19:56 2016 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الداخلية الإسبانية تعلن عن تفكيك خلية متطرفة في مدينة سبتة

GMT 04:38 2016 الثلاثاء ,29 آذار/ مارس

مزادات "روزبيري" تفتتح عرضاً لبيع تحف هندية
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca