الستالينية الإيرانية والديموغرافيا السورية

الدار البيضاء اليوم  -

الستالينية الإيرانية والديموغرافيا السورية

مصطفى فحص

تسرع سلطات الانتداب الإيرانية على سوريا من خطوات التمكين الديموغرافي على ما تبقى من أراضي الدولة السورية، التي تخضع سياسيًا وعسكريًا لنفوذ هذا الانتداب. فيحاول مسلحو حزب الله إلى جانب وحدات عسكرية موالية لنظام الأسد منذ أكثر من شهر اقتحام مدينة الزبداني ذات الطابع السني، ليس فقط لطرد مقاتلي الجيش السوري الحر، بل بهدف ترحيل السكان الأصليين للمدينة إلى مناطق أخرى. وقد كشف بيان المكتب السياسي لحركة أحرار الشام - وهو الفصيل الذي تولى التفاوض مع الطرف الإيراني - من أجل التوصل إلى هدنة عسكرية في الزبداني كانت تهدف إلى وقف هجوم الحزب عليها بالتزامن مع وقف هجوم جيش الفتح على قريتي كفريا والفوعة الشيعيتين في ريف إدلب، إلا أن فريق أحرار الشام المفاوض انسحب من المفاوضات بعد إصرار الطرف الإيراني على طلبه بترحيل سكان كفريا والفوعة إلى مناطق الساحل العلوي بالإضافة إلى ترحيل سكان الزبداني إلى منطقة ريف دمشق. وهي أول عملية تلاعب علني بالتركيبة السكانية السورية والفرز الواضح بين مكوناتها، ضمن خطة استراتيجية ساعية إلى تحقيق ربط ديموغرافي متجانس ضمن مساحة جغرافية آمنة مندمجة عقائديًا وتشبه إلى حد بعيد التوزيع الديموغرافي على الجانب الثاني من حدودها الغربية مع لبنان.
بالنسبة إلى طهران باتت معركة الزبداني حلقة ضرورية في مشروع الربط الجغرافي بين مناطق سورية موالية للأسد وأخرى مطلوب إخضاعها للنظام من خلال احتلالها وإعادة هندستها ديموغرافيًا. وقد بدأ هذا المشروع منذ ثلاث سنوات في ريف حمص الغربي بعد احتلال حزب الله لمدينة القصير وريفها وتهجير أهلها إلى مدينة عرسال اللبنانية ومنعهم من العودة إليها، «باستثناء سكان بعض القرى المسيحية». وتلا هذه الخطوة قيام النظام بتدمير المناطق المتمردة في مدينة حمص وتفريغ أحيائها القديمة من سكانها والحرق المتعمد للدوائر العقارية. ثم استكمل حزب الله وميليشيات الأسد عملية التشتيت السكاني في كل مناطق القلمون الغربي. وتأتي هذه الخطوات في إطار مشروع الفرز الطائفي الذي تراه طهران ملحًّا وضروريًّا في المناطق الخاضعة للأسد. وهي الأراضي التي سلمت مرافقها الحيوية من الدمار وتحتفظ مؤسساتها الحكومية بقدر مقبول من المتانة، الأمر الذي يمكنّها من تلبية حاجة تشغيل الآليات الحكومية الضرورية، أي المحافظة على شبه دولة مستقرة تحاول طهران تسويقها لدى المجتمع الدولي أو استثمارها على طاولة تقاسم النفوذ الإقليمي، أو حتى تقديمها كشريك محتمل في الحرب على الإرهاب.
بعد قرابة 25 عامًا على سقوط الاتحاد السوفياتي وأكثر من ستة عقود على وفاة ديكتاتور روسيا، جوزف ستالين، تعيد طهران إلى أذهان السوريين فصلاً مظلمًا مليئًا بمحطات مرعبة في ذاكرة الشعوب السوفياتية والعالم عن الحقبة الستالينية، تلك الحقبة التي مورست فيها أسوأ جرائم التطهير الديموغرافي بحق الجماعات السكانية المتباينة عرقيًا ودينيًا، إذ تم تشتيت هذه الجماعات بحجة الاندماج الأممي داخل المجتمع السوفياتي، تحت شعارات تطبيق الوحدة الآيديولوجية للأمة. وبالحديد والنار تم تهجير شعوب شمال القوقاز إلى سيبيريا، وتهجير الكتل القومية من أقصى الشرق الروسي إلى جمهوريات آسيا الوسطى، كما قامت الستالينية بإعادة ترسيم الحدود بين جمهورياتها، وتوطين كتل بشرية كبيرة من الروس الأرثوذكس فيها، فبلغت نسبة المتحدرين من أصل روسي في كازاخستان حاليا قرابة 42 في المائة، وقد جرت هذه التحولات الديموغرافية ضمن مخطط استهداف القوميات وضرب نسيجها الاجتماعي وإلغاء هويتها الثقافية، وهو ما يتطابق إلى حد كبير مع ما يحدث في سوريا منذ أكثر من أربع سنوات، إذ تم تهجير أكثر من 10 ملايين سوري أغلبهم يحملون هوية دينية واحدة، بالإضافة إلى تخريب حواضر سوريا التاريخية في حلب وحمص. وترافق ذلك مع تدمير ممنهج للبنية التحتية في أغلب المدن التي خرجت على النظام، إذ تسعى طهران إلى حصر الدولة في كتلة ذات طابع مذهبي أقلّوي بعد أن نجحت في تطهير جغرافيتها. وشرع رأس النظام السوري هذا المشروع وكل هذه الممارسات من خلال انسياقه وراء فكرة أن سوريا حق لمن يدافع عنها وليس فقط من يحمل جنسيتها، الأمر الذي شرع الأبواب واسعًا أمام عملية توطين الإيرانيين والعراقيين والأفغان والباكستانيين واللبنانيين، لملء الفراغ الديموغرافي بعد تهجير الكتلة السنية السورية المنتشرة على الحدود الغربية مع لبنان، حيث الكثافة الشيعية اللبنانية. فباتت هذه الشريحة على تواصل مباشر مع الديموغرافيا العلوية المسيطرة على سوريا المفيدة، ما يمكّن النظام من والاحتفاظ بدمشق ضمن هذه التركيبة بعكس مشروع التقسيم الفرنسي سنة 1936، حيث اختصرت الدولة العلوية في مدن الساحل وحمص.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الستالينية الإيرانية والديموغرافيا السورية الستالينية الإيرانية والديموغرافيا السورية



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 09:15 2017 السبت ,23 أيلول / سبتمبر

طائرة أسرع من الصوت أحدث ابتكارات وكالة "ناسا"

GMT 11:56 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 05:27 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يدافع عن مور في انتخابات آلاباما رغم لاعتراضات

GMT 10:00 2017 الأحد ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ورشة عمل للمصور العالمي إليا لوكاردي في "إكسبوجر 2017"

GMT 01:32 2017 الأربعاء ,11 كانون الثاني / يناير

إيل فانينغ تطل بفستان مثير باللون الكريمي

GMT 01:53 2016 الخميس ,29 كانون الأول / ديسمبر

عمر عريوات يكشف عن رواج كبير لـ"إيبوكسي" في الجزائر

GMT 09:05 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعليم الصلاة للأطفال مسؤولية الأمهات

GMT 17:35 2015 الأربعاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

زايو "حظيرة" الصراع السياسي لمن يريدون مراكمة الثروات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca