إيران وسايكس ـ بيكو الأقليات

الدار البيضاء اليوم  -

إيران وسايكس ـ بيكو الأقليات

مصطفى فحص

أدت اتفاقية سايكس - بيكو قبل مائة عام، بين فرنسا وبريطانيا إلى تقاسم التركة العثمانية في المشرق العربي، وتحويل الولايات العربية التي كانت تحت سيطرة السلطنة العثمانية إلى ممالك وجمهوريات. لكن فرنسا وبريطانيا قامتا آنذاك بمراعاة الموروث العثماني المتبع منذ قرون في إدارة شؤون الولايات والأقاليم العربية، وانتبهتا إلى الوقائع السياسية والاجتماعية، لحظة ترسيم الحدود وإعطاء تلك الإمارات والولايات طابع دول مستقلة تحت سلطة الانتداب، على الرغم من تراجع البعد الديني لدى الأغلبية العربية المسلمة وصعود النزعة القومية عند أغلب المكونات الطائفية في المجتمعات العربية كردة فعل على الممارسات العرقية التركو - عثمانية.

بعد قرن تقريبًا، فشلت الأنظمة القومية العربية في الحكم بعد سقوط الدولة العثمانية وخروج الاستعمار، وفي بناء دول وطنية حديثة ترعى التعدد، والتساوي في الحقوق والواجبات بين جميع مواطنيها، بعيدًا عن انتماءاتهم الدينية أو القومية، وتسبب ذلك بتنامي النزعة الانعزالية لدى الأقليات الدينية. كما أن سياسة التمييز الطائفي والمذهبي التي انتهجتها، أسفرت عن تنامي النزعة الانفصالية عند الأقليات القومية، وتوج هذا الفشل بوصول العسكريتاريا الأقلوية إلى الحكم، وممارستها اضطهادًا سياسيًا ضد باقي الأقليات، وتشتيتًا ممنهجًا لديموغرافيا الأغلبية، لكي تتمكن من إضعافها وحكمها، كما حدث في العراق وسوريا.

وقد أدى الغزو الأميركي للعراق وسقوط نظام صدام حسين، إلى زعزعة ثوابت الموروث العثماني في الحكم، وانتقال السلطة من أقلية وطنية محمية بأغلبية عربية، إلى أغلبية وطنية تحولت سريعًا إلى أقلية عربية، جراء تصرفات معادية مارسها بعض رموزها تجاه محيطه العربي من جهة، ومن جهة ثانية عدم تقبل المحيط العربي لهذا التحول، باعتباره خارج سياق ثوابته وأعرافه المتبعة منذ قرون في شكل الدولة ونظام الحكم، مما فتح الأبواب أمام طهران كي تدخل بغداد دون منافس، وتضع اليد على شيعة العراق؛ منافسيها دينيًا وثقافيًا، واحتواء الأكراد، من أجل تسهيل سيطرتها واستفرادها بالعملية السياسية العراقية، وضمها إلى محور دمشق بيروت كجزء من مجالها الحيوي.

حاليًا من بوابة الاتفاق النووي مع الغرب، تحاول طهران استكمال الانقلاب الذي بدأته واشنطن سنة 2003 على ما تبقى من خريطة سايكس - بيكو المتهاوية في شرق المتوسط، وإلغاء الامتيازات العثمانية في السلطة والجغرافيا الموسعة، لصالح جغرافيا ضيقة تخضع لسلطة أقليات عرقية ودينية، يساعدها في ذلك القبول الضمني لدى إدارة البيت الأبيض، بتغيير الخريطة السياسية لهذه المنطقة، وترويج بعض دوائر صنع القرار الأميركي لفكرة انتهاء شكل الدولة المعروفة منذ عقود في سوريا والعراق، واستحالة العيش بين مكوناتها، مما سوف ينتج عن هذا التشظي، قيام دويلات أمر واقع بطابع طائفي وعرقي، ستكون إيران الراعي الرسمي لقيامها وحمايتها، على غرار التجربة الاستعمارية التي رافقت سقوط الدولة العثمانية وتقسيم الوطن العربي.

بعد الصفعة التي تلقتها طهران في اليمن، والضربة الاستباقية التي نفذتها عاصفة الحزم في تقويض مشروع حكم الأقلية الحوثية للأغلبية اليمنية، اندفعت طهران من أجل الحفاظ على ما تبقى لها من مساحات تخضع لسيطرة قوات الأسد في سوريا، والتي باتت تعرف بسوريا المفيدة الممتدة من دمشق إلى الساحل مرورًا بحمص وحماه، وقامت باستبدال ميليشيا الحشد الشعبي التي تخضع لسلطتها المباشرة بالقوات المسلحة الرسمية العراقية، وإضعاف نفوذ الحكومة المركزية لصالح الأحزاب الطائفية، وإفشال المصالحة الوطنية بين الشيعة والسنة، الذين فقدوا الثقة بحكومتهم من جهة، ولا يمكنهم التعايش والقبول بتسلط «الداعشو – بعثي» على حياتهم ومستقبلهم من جهة أخرى، فيما يستمر تعطيل الحياة الدستورية في لبنان، والتلويح الدائم بضرورة عقد مؤتمر تأسيسي جديد يراعي تحولات المنطقة.

تنتظر طهران شرعنة نفوذها في المنطقة العربية الممتدة من شواطئ الخليج العربي حتى سواحل البحر المتوسط، وتجهد من أجل انتزاع اعتراف دولي على ما تبقى لها من امتداد جغرافي متعارف على تسميته بالهلال الشيعي، الذي تقطعت أوصاله وضاقت مساحاته جراء النزاعات المسلحة ذات الطابع الطائفي والعرقي الذي يدور بين مكوناته، وسيطرة تنظيم داعش على مساحات كبيرة من العراق وسوريا، حيث المجال الحيوي الأهم لإيران، وقلقها من خسارتها للجغرافيا الواصلة بين بغداد ودمشق وبيروت، وهي تحاول الاستقواء بواشنطن بوجه دول المنطقة، فيما غاب عن بالها أن الزعيم السوفياتي فلاديمير لينين قام بفضح اتفاقية سايكس - بيكو عندما رفضت فرنسا وبريطانيا الاعتراف بالدور الروسي في فلسطين ببعده الأرثوذكسي، فهل يقف وريث الإمبراطورية القيصرية والاتحاد السوفياتي فلاديمير بوتين مكتوف الأيدي، فيما إيران تحاول سلبه آخر موطئ قدم له في سوريا، فيما الرسائل السياسية السعودية تتصاعد، عبر وزير الخارجية عادل الجبير وتحذيره من العبث باستقرار المنطقة، والرسائل الميدانية عبر المقاومة اليمنية؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إيران وسايكس ـ بيكو الأقليات إيران وسايكس ـ بيكو الأقليات



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 09:15 2017 السبت ,23 أيلول / سبتمبر

طائرة أسرع من الصوت أحدث ابتكارات وكالة "ناسا"

GMT 11:56 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 05:27 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يدافع عن مور في انتخابات آلاباما رغم لاعتراضات

GMT 10:00 2017 الأحد ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ورشة عمل للمصور العالمي إليا لوكاردي في "إكسبوجر 2017"

GMT 01:32 2017 الأربعاء ,11 كانون الثاني / يناير

إيل فانينغ تطل بفستان مثير باللون الكريمي

GMT 01:53 2016 الخميس ,29 كانون الأول / ديسمبر

عمر عريوات يكشف عن رواج كبير لـ"إيبوكسي" في الجزائر

GMT 09:05 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعليم الصلاة للأطفال مسؤولية الأمهات

GMT 17:35 2015 الأربعاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

زايو "حظيرة" الصراع السياسي لمن يريدون مراكمة الثروات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca