أوروبا وبريطانيا… وغياب السياسة الخارجية

الدار البيضاء اليوم  -

أوروبا وبريطانيا… وغياب السياسة الخارجية

بقلم : خيرالله خيرالله

ليس الاستفتاء على بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أو خروجها منه حدثا عاديا. فأوروبا من دون بريطانيا ستكون شيئا آخر نظرا إلى الدور الذي لعبته المملكة المتحدة في مجال توفير وزن سياسي للاتحاد الأوروبي، هو عمليا وزن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مجتمعة.

تكمن المفارقة في أنّ احتمال ترك بريطانيا للاتحاد الأوروبي يأتي في وقت لا يمكن الحديث فيه عن تطابق السياسات بينها وبين الولايات المتحدة، خصوصا أن لا وجود لما يمكن وصفه بعلاقة ودّية بين الرئيس باراك أوباما ورئيس الوزراء ديفيد كاميرون.

في الماضي، كانت المملكة المتحدة متّهمة بأنها حصان طروادة الأميركي في الاتحاد الأوروبي والعين الساهرة على أنّ هذا الاتحاد لن يبتعد كثيرا عن السياسة الأميركية، بل سيتحرّك في ظلّها. على سبيل المثال وليس الحصر، اتخذ الرئيس الفرنسي جاك شيراك في العام 2003 موقفا في غاية التحفّظ عن العملية العسكرية الأميركية في العراق التي استهدفت قلب النظام وتسليم البلد إلى إيران. لكن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير قبل، في المقابل، أن يكـون شريكا في العملية العسكرية الأميركية، وبتوزيع للأدوار بين الجيش البريطاني والجيش الأميركي داخل الأراضي العراقية.

لم يمنع الاتحاد الأوروبي بريطانيا من أن تكون مستقلة سياسيا عن أوروبا، لكنّ الواضح أن لندن لعبت دائما دورا مهمّا في دعم الموقف الأوروبي عندما وجدت ذلك مناسبا لها. وهذا ظهر جليا في ليبيا حيث ساهمت بريطـانيا مع فرنسـا في التخلص من معمّر القذافي ونظامه، بل لعبت دورا مهمّا في ذلك من دون ضوء أخضر أميركي كامل.

في حال خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيكون ذلك لأسباب داخلية لا علاقة لها بالولايات المتحدة ولا بالسياسات الكبيرة. صغرت هموم المواطن البريطاني كما صغرت هموم بريطانيا العظمى، تلك الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها.

هناك خوف لدى قسم من المواطنين البريطانيين من تدفّق اللاجئين على الجزيرة. دخل إلى بريطانيا نحو 330 ألفا من اللاجئين في العام 2015.هناك خوف أكبر من أن تبقى بريطانيا المكان الذي يقصده فقراء الأوروبيين بحثا عن فرص عمل. والمقصود بفقراء الأوروبيين مواطنون من بولندا ورومانيا وسلوفاكيا وتشيكيا، وكلّ الدول التي انضمت حديثا إلى الاتحاد الأوروبي. بات يحق لمواطني هذه الدول العمل في بريطانيا من دون أي قيود، والاستفادة كليا من الخدمات الصحية والتقديمات الاجتماعية.

استخدم معارضو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي قضية الضغوط التي يتعرض لها النظام الصحّي في المملكة من أجل دفع المواطنين إلى التصويت بـ“نعم” للخروج من أوروبا.

هناك جدل لا ينتهي في شأن هل من مصلحـة بريطانيا البقاء في الاتحاد الأوروبي أم لا. اتخذ هذا الجدل منحى خطيرا بعدما قتل موتور عضو مجلس العموم (مجلس النوّاب) جو كوكـس قبـل أيّام رافعا شعار “بريطانيا أوّلا”. كانت جو كوكس ابنة الواحد والأربعين عاما، والدة لطفلين، وإحدى أبرز المدافعات عن حقوق الإنسان في بريطانيا، كما كانت بين أبرز الذين دعموا قضية الشعب السوري.

نسي المواطن البريطاني العادي أنّه لا يريد أن يعمل، وأنّه لولا وجود الأجانب لكان كلّ شيء في لندن، بما في ذلك المطاعم، يقفل باكرا. ما جعل لندن عاصمة للعالم وأهمّ مدينة أوروبية وأحد أكبر المراكز المالية في العالم، هو وجود الأجانب فيها. يقول بيل غيتس، مؤسس “مايكروسوفت” وأغنى أغنياء العالم، أن استثماره مليار دولار في بريطانيا يعود قبل كل شيء إلى أنّها “مدخل” إلى أسواق أوروبا قبل أيّ شيء آخر. لم يتردد غيتس في دعوة البريطانيين في رسالة نشرتها صحيفة “ذي تايمز” إلى البقاء في أوروبا.

دخلت بريطانيا الاتحاد الأوروبي بتأنّ شديد وذلك بعدما رحل الرجل الذي وقف دائما في وجه انضمامها إليه، أي شارل ديغول. رافقت بريطانيا، بحذر، تطور الاتحاد الأوروبي وتوسّعه، بل لم تعترض على توسيع الاتحاد كي لا تكون هناك كتلة قوية فيه نواتها ألمانيا وفرنسا. بقيت متحفظة على أمور كثيرة. لم تقبل “اليورو” عملة لها، كما بقيت خارج “اتفاق شنغن” المتعلّق بالتأشيرة المشتركة، ولكن كان عليها الانصياع لقوانين أوروبية معيّنة تعلو على القوانين البريطانية وهذا ما أثار حفيظة كثيرين في البلد.

على هامش الاستفتاء الذي ستشهده بريطانيا يوم الثالث والعشرين من حزيران ـ يونيو الجاري، ثمّة ملاحظتان من المفيد التوقف عندهما. الأولى ذات طابع لا يتجاوز حدود المملكة المتحدة، والأخرى مرتبطة بما هو خارج الحدود، أي بالسياسة الخارجية البريطانية.

بالنسبة إلى الملاحظة الأولى، سيكون مطروحا في حال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مصير اسكتلندا وويلز. ليست لدى هاتين المقاطعتين رغبة في ترك أوروبا. لم تخف نيكولا ستورجن رئيسة الحكومة في اسكتلندا ذلك. ليس مستبعدا أن تلجأ اسكتلندا إلى تنظيم استفتاء خاص بها تحت عنوان الاستقلال عن المملكة المتحدة والبقاء في الاتحاد الأوروبي كدولة مستقلة. هل تصمد وحدة المملكة المتحدة في حال صوتت الأكثرية مع الخروج من الاتحاد الأوروبي؟

بالنسبة إلى الملاحظة الثانية، يكشف الاستفتاء حجم الانكفاء البريطاني ومدى التقوقع الداخلي. لم تعد هناك سياسة خارجية بريطانية لديها تأثيرها على المستوى العالمي. الأهمّ من ذلك كلّه، أنّه لم يعد هنـاك حلف بريطاني – أميـركي. لعلّ أكثر ما يهمّ البريطانيين حاليا هو مسألة الهجرة إلى بلدهم والنظام الصحّي المكلف “بسبب الآتين من الخارج”، كما يقول أولئك الذين يقودون حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي.

في الماضي القريب، كان الحلف القائم بين واشنطن دي . سي ولندن يحول دون أن تكون بريطانيا جزءا حقيقيا من أوروبا. كان الأوروبيون يتهّمون بريطانيا بأنها تعارض وجود سياسة أوروبية مستقلّة، ولو نسبيا، عن السياسة الأميركية. في السنة 2016، لم يعد من وجود للسياسة الخارجية البريطانية. لم يعد مطروحا هل بريطانيا تابعة لأميركا أم لا، أو هل لرئيس الوزراء البريطاني كلمة في القرار الأميركي أم لا؟ من يتذكّر أن مارغريت تاتشر لعبت دورا حاسما في التصدي لصدّام حسين بعد احتلاله الكويت صيف العام 1990؟ وقتذاك التقت تاتشر جورج بوش الأب وأقنعته بأن لا مجال لأي تهاون في موضوع احتلال الكويت، وأن أي تهاون هو بمثابة “استسلام” لصدّام ستكون له نتائج كارثية على الصعيديْن الإقليمي والعالمي.

ليس الحق على بريطانيا وحدها في شأن ما يتعلّق بضمور السياسة الخارجية وغيابها عن الاستفتاء، علما أنّ الأمر يتعلّق بأوروبا والانتماء إليها. الحقّ أيضا على إدارة أميركية على رأسها باراك أوباما تمتلك اهتمامات من نوع آخر أبعد ما تكون عن أوروبا، وحتّى عن العلاقة بين أوروبا ودولة مثل روسيا باتت تستطيع أن تفعل ما تشاء في منطقة ممتدة من سوريا إلى أوكرانيا… فيما أوروبا مجبرة على الوقوف موقف المتفرّج لا أكثر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوروبا وبريطانيا… وغياب السياسة الخارجية أوروبا وبريطانيا… وغياب السياسة الخارجية



GMT 19:41 2022 الجمعة ,14 تشرين الأول / أكتوبر

معركة حياة أو موت لـ"الحرس" في إيران

GMT 23:27 2022 الخميس ,18 آب / أغسطس

​إيران تستعرض عضلاتها

GMT 14:59 2022 الثلاثاء ,16 آب / أغسطس

إيران تحاول استعادة المبادرة في العراق...

GMT 19:55 2022 الإثنين ,15 آب / أغسطس

«حماس» بالمختصر المفيد

GMT 16:11 2022 السبت ,13 آب / أغسطس

الخبز قبل الغاز... في لبنان

GMT 18:10 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 03:29 2018 الأربعاء ,24 كانون الثاني / يناير

استبدال رائدة فضاء سمراء فجأة من بعثة "ناسا"

GMT 12:18 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

الغيطي يعترض على قيام سلفي بتحطيم تمثال في روما بلفظ مسيء

GMT 08:10 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

C3 إيركروس بديل مثالي لسيتروين C3 بيكاسو الشعبية

GMT 05:16 2017 الثلاثاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

دراسة تعلن أنّ الأطفال يرغبون في رؤية العقاب العادل

GMT 02:05 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

لفتيت يؤكد ضرورة وضع قانون لتنظيم العمل الإحساني في المغرب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca