التعدد الإبداعيّ وإشكاليّة طفرة النصّ النقديّ

الدار البيضاء اليوم  -

التعدد الإبداعيّ وإشكاليّة طفرة النصّ النقديّ

بقلم - د.سناء الحافي

من منطلق البحث عن هموم اللغة والإنسان، في إطار منتوجه الإبداعيّ، الذي يختزل العلاقة الزمكانيّة بالأدب وفنونه، وما ينتج عن ذلك من قصائد ونصوص وروايات تخلق الدهشة حينًا والغرابة أحيانًا، وبالاستناد على انعكاسات الواقع الذهنيّة عند كلّ مبدع، التي قد تكون عبارة عن كلام في البداية، وحين تتحرك إلى خارج الذات يمكن ألا تعود كلامًا، إذ نجد الرسّام والموسيقيّ والشاعر كلّهم يتميّزون بميّزة واحدة فنيّة، وتتعدّد بداخلهم وجوه الإبداع، حيث كان جبران خليل جبران شاعرًا ورسامًا أيضًا.

وكذلك الشاعر الإيرانيّ سهراب سبهري احترف الرسم، وقد سار سهراب الشاعر بموازاة سهراب الرسّام، ولم يسبق أحدهما الآخر، وإنما تبادلا الأفكار والرؤى والصور والألوان، حتى يكمّل ذاك الرسام شاعريّة الإنسان الآخر الذي يجسّد القصيدة – اللوحة بالألوان والفرشاة والمعاني العميقة، التي تتكاثق فيها الصور والدلالات بكلّ اقتدار.

فالتعدّد الإبداعيّ سمة لا يتميّز بها الكثيرون، وبخاصّة في زمن تطوّر التقنيّة التي وفّرت المناخ الإنتاجيّ للمبدع، واختصار المسافة بينه وبين المتلقي، لتصبح المادة المطروحة مكتملة الجوانب، إذا حافظ على استقلاليته الذاتيّة ومسؤوليته الفكريّة حيال كونية عصره وإنسانيّة إنسانه، مازجًا قلب الأدب وعقل الفكر بنظرة محايدة.

فالتعدد الذي نمارسه أحيانا في العملية الإبداعية ليس تعددًا منهجيًا بقدر كونه تعددًا إجرائيًا، يحاول التعاظم على نمطية المنهج الساكن، ويحاول أيضًا التعاظم على فكرة الاستلاب المنهجي التي يقع فيها بعض الكتاب، فيشعر القارئ في إطارها بنمطيّة مميتة في التناول والتبويب، ويفقد الفن معها حضوره الفاعل، وقيمته المشدودة في التفريق بين مبدع وآخر.

فالمقاربة بين الفعل والقول، والتجديد والنمطية، تنطلق من طبيعة التحول التي أصابت الأدب العربي في هذه الفترة المرتبطة بالتعبير والاهتمام بالآخر بعيدًا عن الذات، والاهتمام بالرصد بعيدًا عن التعبير، والاهتمام بالإخبار بدلاً عن التشكيل البياني.

لكن هل تطور التقنيّة خدم الأديب العربي بشكله المعاصر أم كان مجحفًا في حقّه؟ أم أن استغلالها بشكل سلبيّ، جعل كل من هبّ ودبّ يمتهن الشعر والقصة والرواية، وبخاصة مع طفرة النص النقديّ؟

إن ما دفعني لكتابة هذا المقال الذي ترددت كثيرًا في الإقدام على كتابته هو ما صرت أستشعره من ترهلات في الجسد الأدبيّ، الذي أصبح نحيلا لا يقوى على تقديم الجيّد والمميّز والهادف، إذ أننا نعيش على تسارع المفردات والتصوير، الذي يجعلنا في لوحة متشعبة ألوانها، لا نفقه فيها سوى ميّزة الألوان وتعدد المنتوج، على عكس ما كنّا نتذوّقه سابقا من جماليّة في الكلمة والمعنى والمبنى في الجنس الأدبي، لكن الضمير الإعلامي لا زال ينبض خيرًا في بعض الجرائد والمجلات ليقدّم لنا الأدب بنكهته الحقيقيّة وعمقه التاريخيّ .

فالأديب هو القاعدة المثقفة ودعمه يعادل دعم المجتمع بأكمله فكريًا وثقافيًا وروحيًا، فهو بالنهاية لسان الأمّة يتحدث عنها ويترجم صورها السلبيّة والإيجابيّة، لكن حين نعاين الحقيقة من المنظور الإعلاميّ الصادق، نجد أن قمع الأديب هو هدف واضح وتهميشه مقصود، وما تبقى للقراء سوى ما تركه التاريخ، الذي أصبحنا نشكك فيه أيضا وفي مصداقيته.

حتمًا...المشكلة تبدأ.. بكشف عمق خيبات الإنسان المعاصر الذي يعيش وفق عالمين: عالم واقعيّ صادم، وعالم متخيّل يشكله كل صباح ويعاينه كل مساء، ليقيس حجم المتحقق منه، وحجم المتأبي عن التحقيق.

ليصبح الإبداع الملجأ المباح والمستباح...ممّا يزيد من تفاقم الفجوة بين النص الأدبيّ وجودته، وبخاصّة بعد أن أصبح النقد فضاء منسيًا.
على سبيل المثال، قديمًا كانت القصيدة بمجرّد أن ترى النور تجد من يستقبلها للدراسة والتحليل والنقد البناء، حرصًا على جودة النص الشعريّ ووضع الشاعر في مساره الصحيح، لكن مع التغيّرات التي تعرّض لها الأدب العربيّ خلال القرن العشرين، وظهور أنماط جديدة للشعر العربيّ وتكاثر الشعراء، تغيّرت مفاهيم النقد الأدبيّ البناء أيضًا فيما يخصّ وظائفه وأساليبه وأهدافه مع تقلّص متابعة الحركة النقديّة باعتبارها هجومًا لاذعًا على الشاعر أو القصيدة بعيدًا عن النظر الى الأثر الأدبيّ بحدّ ذاته، وبخاصة مع ظهور مدارس تهتمّ بدراسة النتاج الأدبيّ التي تعتمد على أسس فلسفيّة حديثة كمدرسة النقد الوجودي ومدرسة التحليل والنقد النفسيّ و مدرسة النقد الثيمي، واختلاف ظروف الكتابة تزامنًا مع الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة وفق منهج الأسلوبيّة الذي يعتبر أحد الدعائم التي يرتكز عليها الناقد، إضافة الى اللغة .

لكن ما تشهده الساحة الأدبيّة من غياب النقد لدينا والتوقف عن المتابعة الإبداعيّة والحركة الشعريّة وايكاله بصيغة غير مباشرة الى الصحافة الأدبيّة التي يسهر القائمون عليها بإبداء الآراء من خلال رؤى نقديّة باهتة، بعيدًا عن تناول الظواهر الابداعيّة وما تنطوي عليه من قيم جماليّة، ورؤى إنسانيّة ليتّضح بذلك أن الغياب القسريّ الذي يعاني منه النقد الأدبيّ في اللحظة الراهنة، لا يدلّ على عجز النقاد عن استخدام آليات النقد وأساليبه بقدر ما يعود الى الاستغراق في التنظير والابتعاد عن التطبيق، مما جعل الركود في الساحة النقديّة مشكلة عامة لمختلف القضايا الاجتماعيّة والإنسانيّة والسياسيّة التي تستدعي وقفات للتأمل والمراجعة أو النقض أو التصور .

وكما هو معروف فإن النقد الحقيقيّ في مجتمعاتنا يضعنا في خانة الشك لأنه غير مألوف، بل وفي الغالب يكون محظورًا، وهذا ما يدلّ على افتقارنا الى جوّ فكريّ نقديّ حرّ يجعلنا أمام ضرورة توفير حيثيّات الموضوعيّة ودقة التحليل لإعطاء النصّ الشعري حقّه في الدراسة والإمتاع.

وباعتبار أن النقد كيانا ينزوي ضمن كيانات الفلسفة واللغة والفن والقوانين وممارسة هذه الكتابة، تستوجب على الناقد أن يكون خاضعًا لرقابة الكيانات الأخرى، من أجل توّحد المفاهيم الحقيقيّة للنص النقدي في المجال الأدبيّ المجبر على التبدل والبحث، مما يفضي به الى التعدد والتطور حتى لا يتوقف الأمر عند حدود الفهم، ليصل ذلك الى أبعد مستويات الاختبار، مراعاة لشروطه السائدة في العلوم الإنسانيّة والبحث الابيستمولوجيّ رغم نسبيّة نتائجه، التي تستدعي طرح الأسئلة النوعيّة الملائمة للنص الشعريّ والمحافظة عليه بالقيم الضابطة، بعيدًا عن القيم الزائفة، لتبقى بذلك مهمّة النص النقديّ الاهتمام بمستقبل النص الأدبيّ المتعدد، عبر نقد المرحلة الحاضرة وتجسيدها ضمن خصوصيات الحداثة الأدبيّة التي تتطلّب منا الاشتغال على مكتسباتنا الفكريّة، وتحريرها من دائرة الركود وغياب المتابعة، التي يعانيها الأدب منذ وقت قصير.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التعدد الإبداعيّ وإشكاليّة طفرة النصّ النقديّ التعدد الإبداعيّ وإشكاليّة طفرة النصّ النقديّ



GMT 10:18 2023 الأحد ,22 كانون الثاني / يناير

مجانية الالقاب على جسر المجاملة أهدر قدسية الكلمة

GMT 12:12 2022 الأحد ,11 كانون الأول / ديسمبر

بيروت تتوالد من رمادها وتتزين بكُتابها.

GMT 18:10 2022 الثلاثاء ,15 آذار/ مارس

أنور الخطيب لمحمود درويش: إذن..لماذا خرجت

GMT 14:57 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

التنوع الثقافي لا يُفسد للود قضية

GMT 14:45 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

" واقتلع الشوق ماتبقى مني "

GMT 14:00 2021 الثلاثاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

رقي الإمارات سرها وسحرها

GMT 18:10 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 03:29 2018 الأربعاء ,24 كانون الثاني / يناير

استبدال رائدة فضاء سمراء فجأة من بعثة "ناسا"

GMT 12:18 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

الغيطي يعترض على قيام سلفي بتحطيم تمثال في روما بلفظ مسيء

GMT 08:10 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

C3 إيركروس بديل مثالي لسيتروين C3 بيكاسو الشعبية

GMT 05:16 2017 الثلاثاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

دراسة تعلن أنّ الأطفال يرغبون في رؤية العقاب العادل

GMT 02:05 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

لفتيت يؤكد ضرورة وضع قانون لتنظيم العمل الإحساني في المغرب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca