الرباط - الدار البيضاء
انتقد الأكاديمي المغربي عبدالله ساعف شيوع، استعمال خطاب ينضح باليقينية من طرف بعض الباحثين المغاربة دون مراعاة مسألة النسبية الملازمة للحقيقة، معتبرا أن الباحثين الملتزمين بالقواعد المنهجية للبحث يشعرون إزاء هؤلاء، الذين سمّاهم بـ"المخاطَبين الدوغمائيين"، باستياء ونفور شديدين.
وقال ساعف في محاضرة تفاعلية في إطار محاضرات "حديث الخميس"، التي شرعت كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط في بثها، إن هناك باحثين مغاربة تعوّدوا على التعبير عن أفكارهم مسلَّحين بالاحتياطات المنهجية اللازمة، وفي مقدمتها نسبية الحقيقة، وجعلوا منها قاعدة في الحياة، لكن باحثين آخرين لا يلتزمون بهذه القواعد المنهجية الضرورية.
وأشار في هذا الإطار إلى أن عالم الاجتماع بول باسكون كان يلتمس من كتّاب النصوص العلمية التشطيب على كلمات من قبيل "أبدا"، و"في كل زمان"، و"دائما"... ويرفض أي شيء أو أي مفردات توهم الشعور بأن الأمر يتعلق بحقيقة مطلقة، في حين إن الحقيقة، كما هي متعارف عليها في القواعد العلمية، تبقى دائما نسبية.
واعتبر ساعف أن على الباحث أن يستعمل مفردات وتعابير لا تحيل على الحقيقة المطلقة، من قبيل "ربما"، و"على ما يبدو"، و "يظهر أن"... ذلك أن هذه المفردات، يضيف المتحدث، هي تعبير عن الحقيقة بطريقة نسبية بعيدا عن القول الفصل والجزم.
وأضاف: "هناك بعض المحاورَين جازمون بشكل مفرط، وواثقون أكثر من اللازم بأنفسهم، ومحاطون بيقينيات وقناعات صلبة، رافضين، دون تردد، مجموعة من الآراء التي تختلف عن آرائهم، ويخاطبون الناس من مخالِفيهم بلغة يقينية مثل: هذا الشيء حُسم فيه من قبل".
واعتبر ساعف أنّ الباحثين حاملي النظرة السببية "يعيشون أمام هؤلاء المخاطَبين الدوغمائيين عدم الثقة والاستياء الشديد والنفور"، مبرزا أن الوقائع الحالية التي أفرزتها جائحة فيروس "كورونا" أظهرت محورية العلم داخل مجتمعاتنا من خلال منظوريْن، أوّلهما يرى أن العلم هو مرجع للحقائق المطلقة، والثاني يرى أن العلم يعيش ويتطور وليس حقيقة ثابتة ومطلقة.
وأوضح أن دعاة المنظور القائل إن العلم هو مرجع للحقائق المطلقة والإثباتات التي لا يمكن دحضها، يتناسون عدة مقولات لعدد من العلماء تقول بأن المعرفة العلمية الحقّة قابلة للتكذيب، كما ذهب إلى ذلك "كارل أوبر"، والطابع المتقطّع لتشكيل تاريخ العلوم يكذب هذا المنظور الذي يتصور أن العلم هو مرجع للحقائق المطلقة والثابتة.
وأردف قائلا: "تقدم العلم لا يُلغي إمكانية الاختلافات، مثلا كما نعيش الآن بشأن التدابير التي ينبغي اتخاذها لمواجهة كوفيد-19، والعلاجات والأدوية المتعلقة به، والنقاشات المتعلقة بالطوارئ وطرق التجارب السريرية وتحديد الأجوبة التي يجب أن تعطى للجائحة... وغيرها من الأمور الخلافية".
وانطلاقا من هذا المنظور، فإن العلوم، كما يرى ساعف، تعيش وتتقدم من خلال الخلافات والاختلافات التي هي جزء من البحث العلمي، والتي تذكّر بأن النظريات العلمية لا يمكن أن تكون نظريات مطلقة. وهذا المنحى، يردف المتحدث، يعزز قدرات العقل على الاعتراف باحتمالات وسيناريوهات غير متوقعة، والنظر إلى الحياة كمغامرة مستمرة.
وأورد المتحدث أن عدم اليقين يحيط بالإنسان وتؤكده مختلف الوقائع، ويثبت فكرة إمكانية تحول مصير المجتمعات بشكل مفاجئ، كما يحصل الآن مع انتشار فيروس "كورونا" المستجد واجتياحه لأغلب بلدان العالم في مختلف القارات.
وزاد قائلا: "لطالما كانت الأوبئة جزءا من المخاطر والتهديدات، وقد قام عدد من مراكز التفكير الاستراتيجي بتطوير فرضيات وأطروحات في ظل تفكير أمني وعسكري، ومع ذلك فصدمة كوفيد-19 تشكل اختبارا مهما وامتحانا جذريا أتى بطريقة عنيفة غير متوقعة، وشكّل مفاجأة غير مسبوقة وبحجم لم يكن معروفا من قبل، كما بيّن هشاشة مجتمعات اليوم، بما فيها حتى التي تظهر أنها أكثر متانة".
وعلى الرغم من أن سكان المعمور عاشوا سلسلة من الأحداث الصادمة، كانت بمثابة نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، مثل الكوارث الطبيعية والحروب والأزمات الاقتصادية كأزمة 2008، إلا أن ساعف يرى أن اجتياح فيروس كورونا للقارات الخمس قد أدخل كوكب الأرض مرحلة مفصلية غير مسبوقة، حيث لم يتوقع أحد على الإطلاق مدى اختلاف هذه الجائحة الجديدة عن سابقاتها من الأوبئة الغريبة التي مرت في أزمنة معينة.
وخلص أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط إلى القول إن جائحة كورونا، التي يصعب التنبؤ بامتدادها الجغرافي ووتيرة انتشارها، ستكون حدثا تاريخيا إذا صدقت التوقعات التي تشير إلى احتمال أن تؤدي إلى وفاة أزيد من أربعين مليون شخص في العالم؛ إذ لم يسبق أن خلف أي وباء مثل هذا العدد الهائل من الضحايا.
قد يهمك أيضًا
ترامب يُعارض إلغاء كامل التعريفات الجمركية على المنتجات الصينية