القاهرة ـ المغرب اليوم
يعد فولكهارد فيندفور مدير مكتب جريدة «دير شبيغل» الألمانية في القاهرة من أبرز الإعلاميين الأجانب الموجودين على أرض مصر، بل هو أبرزهم بالفعل، ليس فقط لأنه عميد المراسلين الأجانب بمصر بحكم عمله لأكثر من أربعة عقود فيها ورئيس لجمعية المراسلين الأجانب، وإنما أيضا جاءت شهرته لمعاصرته للكثير من الأحداث الهامة والساخنة عربيا وعالميا على مدار سنوات عمله المهني التي تتجاوز نصف القرن. وكان من أبرزها مرافقته للخوميني في طائرته أثناء عودته إلى إيران، ومرافقته للرئيس السادات في زيارته التاريخية للقدس، كما حظي بعلاقات قوية مع كثير من الرؤساء المصريين والعرب، مما مكنه من الفوز بالكثير من اللقاءات الصحافية المهمة والنادرة، وكاد أن يدفع حياته ثمنا لعمله بعد أن تعرض للاختطاف في لبنان. بحكم إقامته الطويلة بمصر وإتقانه الشديد للغة العربية واللهجة المصرية أصبح فيندفور وجها مألوفا في كثير من الفضائيات والبرامج السياسية للحديث عن الشأن المصري. وفي مكتبه الكائن خلف جامع مصطفى محمود الشهير بمنطقة المهندسين الراقية بمصر التقيناه، وكان معه هذا الحوار: * متى جئت إلى مصر؟ - تمتد مسيرتي في مصر لأربعين سنة متقطعة، فقد وصلت إلى مصر عام 1955 وكان عمري 17 سنة، وأذكر وقتها عقد أول اتفاق بين مصر والاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا لتوريد السلاح والمعروف بصفقة السلاح التشيكي. وقد جئت إلى مصر بعد وفاة والدي في الحرب العالمية الثانية، حيث كان هو ووالدتي يعملان بالتدريس، ولدينا هنا بالقاهرة المدرسة الألمانية التي يمتد عمرها إلى عشرات السنين، وحصلت على الثانوية العامة الألمانية، لكن طموحي دفعني لتطوير نفسي في اللغة العربية وحصلت على الثانوية العامة المصرية ثم درست اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وبعدها تقدمت لدراسة اللغات الشرقية بكلية الآداب بجامعة عين شمس، فدرست اللغة الفارسية والتركية. * كيف بدأت علاقتك بالصحافة والإعلام؟ - في البداية عملت نحو 8 سنوات في الإذاعة المصرية في القسم الأوروبي، بالإضافة إلى تقديم برامج على الإذاعة الموجهة. وبالمناسبة، كان الزعيم الجزائري الكبير أحمد بن بيلا زميلي في الإذاعة المصرية، ولم أتصور أبدا أنه سيصبح رئيس جمهورية. وبعد حرب 1967 سافرت إلى بيروت للعمل بالمعهد الألماني للدراسات الشرقية، وبعد ثلاث سنوات عدت إلى ألمانيا الغربية - آنذاك - لأعمل مسؤول القسم العربي في الإذاعة الألمانية، ثم جاءني عرض للعمل في مجلة «دير شبيغل» الألمانية، وأرسلوني في بداية 1974 إلى بيروت لفتح أول مكتب للمجلة هناك، ثم عدت بعد سنوات مرة أخرى مديرا لمكتب المجلة بالقاهرة لأستمر فيها حتى الآن. * كيف رأيت مصر عبر رؤسائها الذين عاصرتهم؟ - لقد جئت إلى مصر وكان عمري 17، واليوم عمري 77 سنة، وقضيت فيها أكثر من أربعين عاما، عاصرت خلالها كل رؤسائها، وعملت مترجما للرئيس جمال عبد الناصر لفترة، وما زلت أذكر مصر الناصرية التي كانت وقتها من العواصم القليلة التي توجد فيها حركات مقاومة الاستعمار، وكانت القاهرة ملتقى زعماء العالم الثالث الذين حاربوا الاستعمار، وكانت مصر مختلفة تماما عما هي عليه الآن، وهي فترة أحبها جدا. وقد كنت أتابع عبد الناصر حتى قبل أن آتي إلى مصر، وأذكر فترة تأميمه لقناة السويس، التي أراه كان ناجحا فيها رغم حرب السويس المعروفة بالعدوان الثلاثي، فقد كان وطنيا دون شك. * هل هو تحيز لجمال عبد الناصر؟ - لا، ولكن بحكم وجودي بمصر أعتقد أن مصر في تلك الفترة كانت في حاجة إلى حكم الرئيس جمال عبد الناصر، وبفضله كانت مصر «حاجة تانية»، ومن نسي ذلك كان من الصعب عليه أن يحكم. * وماذا عن الرئيس السادات ولقاءاتك به؟ - السادات كان مختلفا تماما ويتسم بالتفكير الشديد ولديه قدرة على التخطيط المرحلي ويدرك جيدا نقاط ضعف العدو السياسي، وللأسف هذه القدرة لم تكن لدى عبد الناصر، لكن تحديات ناصر كانت مختلفة عن تحديات السادات. وكان الرئيس السادات يدرك جيدا أنه لن يستطيع أن يستعيد الأراضي المصرية المحتلة كلها عسكريا لأن أميركا لن تسكت، ولكنه في نفس الوقت أدرك أنه لن يستطيع تحقيق إنجاز إلا بإثبات القدرة على إحراز انتصار عسكري ولو محدود من أجل أن يكمل باقي المشوار بالمفاوضات، وهذا هو سر التخطيط لحرب العبور. ومن ذكرياتي في تلك الفترة أول حديث أجريته مع الرئيس أنور السادات، وكان ذلك في أغسطس (آب) 1975 في جزيرة الفرسان بالإسماعيلية. وقد التقيت به كثيرا وسجلت معه 22 ساعة حوارات، ومن الصدف المهمة في حياتي المهنية أن آخر حديث في حياة السادات كان معي، وذلك يوم 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1981، أي قبل اغتياله بأربعة أيام. * ما انطباعك عن السادات في حواره الأخير؟ وهل كان يستشعر أي خطر علي حياته؟ - كان حديثا قويا جدا لم أستشعر فيه ما يوحي بقرب موته، ولكن كان هناك سؤال لا أنسى رده عليه، فقد سألته: «ألا تخشى من الإرهاب بعد محاولات من بعض المجموعات المتطرفة باغتيال حضرتك؟»، فقالي لي: «دول أولادي، وبدلا من أن يشكروني فهم متضايقون لأنهم لا يعرفون، لكن الأولاد لا يقتلون أباهم». ولكن للأسف الأولاد قتلوا أباهم بعد أربعة أيام من هذا الكلام! * ما أخطر نقاط الضعف التي تلمستها في الرئيس السابق حسني مبارك خلال لقاءاتك الكثيرة به؟ وهل حقا كان ضعيف الشخصية كما يصوره البعض؟ - بطبيعة الحال كل إنسان لديه نقاط ضعف، فمثلا جمال عبد الناصر لم يفهم جيدا في المسائل العسكرية وتركها للمشير عامر. أما السادات فنقطة ضعفه أنه لم يدرك حقيقة خطورة الجماعات المتطرفة ودفع حياته ثمنا لهذا الخطأ. أما أكبر أخطاء مبارك التي جاءت بالتدريج أنه وافق على الضغوط التي مورست عليه من قبل بعض المقربين ليخلق أسرة حاكمة، وأن يجعل ابنه حاكما لمصر رغم أنه كان جيدا في بداياته ولكن تدريجيا ظهرت مراكز قوى، وكان هناك بعض رجال الأعمال الذين لم تكن مصلحة مصر من أولوياتهم، عملوا على تهيئة جمال مبارك خليفة لوالده رغم أن الرئيس مبارك نفسه أكد لي مرارا أنه لن يكرر تجربة سوريا في توريث بشار الأسد حكم والده. وأعتقد أن الحاشية المحيطة به هي التي دفعت به إلى هذا المصير، ومع ذلك فمبارك لم يقتل معارضا سياسيا! * هل في ذلك تلميح بالإدانة للرئيس الحالي مرسي وبسوء موقفه مقارنة بمبارك؟ - الرئيس مرسي ما زال جديدا، ولو كنا حكمنا على أنور السادات في نفس الفترة من بداية توليه الحكم بعد ناصر كنا قلنا إنه ضعيف جدا ولن يستطيع أن يفعل شيئا، وكذلك بالنسبة لجمال عبد الناصر، لأن فترة تسعة أشهر غير كافية. لكني أعرف أن جماعة الإخوان المسلمين وحزبهم الحرية والعدالة يختلفون عن الأحزاب الأخرى في كونهم عقائديين، لذلك بالحكم عليهم من كلامهم وتصريحاتهم وانتقاداتهم لخصومهم حتى في معسكر الإسلام السياسي نجدهم لا يريدون أن يكون لهم شركاء، وبمشاهداتي للواقع وتحليلي له فإنني أرى أنهم يعتقدون أنهم مكلفون من ربنا أن يحكموا مصر، بل والعالم الإسلامي ككل، اعتقادا منهم أن ذلك في خدمة الإسلام، ولا يقبلون أن يكون هناك مسلمون آخرون يرفضون أداءهم هذا، كما أن لديهم مشكلة في شعار «الدين لله والوطن للجميع»، لأن هناك مسلمين كثيرين يفسرون الإسلام تفسيرا آخر، فالوطن لكل الناس، لكل ذلك أعتقد أن وضع الرئيس مرسي ليس سهلا بحكم عضويته في جماعة الإخوان ورئاسته السابقة لحزب الحرية والعدالة، وهي مشكلة لا يخرج منها إلا بإعمال مبدأ فصل الدين عن الدولة. * ماذا كانت انطباعات الألمان عن الرئيس مرسي خلال زيارته لألمانيا؟ - بشكل عام نحن في أوروبا ككل لا نتدخل في شؤون الدول الأخرى، ولكن نرفض رؤية أي خروج واضح وسافر على المبادئ التي نعتبرها ديمقراطية، فمن يميز بين ديمقراطية إسلامية وأخرى مسيحية فهو ضد الديمقراطية أو أنه يستخدمها لمصلحته، وهذا يفسر ما حدث لطالبان. ومن يصف مصر الحديثة من عهد محمد على بأنها دولة كافرة فهو إما جاهل وإما لديه هدف معين، ولكن إذا أراد إقناعي بأن هذا الكلام منبعه حبه للإسلام فإنني لن أقبله وأتشكك فيه لأني أعرف الإسلام والمسلمين جيدا، ويكفي أنه يوجد في ألمانيا مركزان إسلاميان من أكبر المراكز، وعدد لا بأس به من أعضاء الإخوان المسلمين، ومنهم أعضاء بارزون، وقد تعرفت على المرشد العام السابق الشيخ عمر التلمساني في ألمانيا. * بشكل عام، كيف ترى مصر الآن؟ - أعتقد أننا لا نستطيع أن نحكم على مصر الآن، ولكن لو لم يتم فصل الدين عن الدولة، بل لو أصر الرئيس مرسي على عدم الفصل فلن يستطيع أن يفعل شيئا، كما أن أهم شيء في أي حكم دعوته في الحملات الانتخابية لتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين الأوضاع المعيشية، وإذا أتيحت الفرصة لهذا الحاكم أن يطبق ذلك ولو جزئيا فإنه يكون ممتازا. ولكن الذي يطلق فقط شعارات ولا يفعل، بل ويقوم في الوقت نفسه بالتقليل والتحقير من معارضيه ويستعين بالدين في ذلك، فأنا أعتبره يسيء إلى الدين الإسلامي. * هل هو انتقاد للتيارات الإسلامية؟ - أنا لا أتدخل في الشؤون الداخلية لمصر، ولكنه رأي شخصي، فهؤلاء يعتقدون أنهم يخدمون مصر، ولكن إحساسي أن مصر أكبر من المشكلة المؤقتة الموجودة حاليا بين النظام والمعارضة، لأن الثورة في مصر لم تقُم من أجل الإسلام، فالإسلام لم يكن مضطهدا، والقرآن لا يحتاج إلى إصلاح، ولكن الأوضاع المعيشية هي التي كانت بحاجة إلى إصلاح كامل وأشياء كثيرة أخرى، لكنها للأسف لم تتم حتى الآن! بينما نجد جمال عبد الناصر مثلا بمجرد وصوله إلى الحكم قام بأشياء فورية أفادت الفقراء والمحرومين. صحيح هو أخطأ في بعض الأمور ولكن كان ذلك في ظل إطار أساسي من رغبته في العمل على تخفيف معاناة الفقراء والضعفاء في المجتمع، ويحسب له محاولته قدر الإمكان تحقيق ذلك. * ما رأيك في شباب الثورة المصرية؟ - شباب مصر ممتازون. * هناك من يتهم بعضهم بأعمال الشغب والبلطجة، ما رأيك؟ - البلطجية كانوا موجودين من أيام انتخابات الحزب الوطني في ظل النظام السابق المستبد للاستعانة بهم، بدليل وقوع حالات وفيات في تلك الانتخابات. * إلى أي مدى ترى الإعلام قد انحرف عن مساره الحقيقي؟ - بالطبع هناك تنوع في الإعلام، ومنهم الجيد أو غير ذلك، ولكن كل واحد من حقه أن يعبر عن رأيه، وهناك أبواق إعلامية كثيرة وآراء متنوعة، وقد تكون هناك أجندات لدى بعضهم، ولكن من حيث المبدأ أعتقد أن القنوات التي يميل إليها السواد الأعظم من المشاهدين هي قنوات يصعب اتهامها بالفساد. * هل سحبت النوافذ المعلوماتية الجديدة كمواقع التواصل الاجتماعي البساط من الإعلام التقليدي؟ - هي ظاهرة عالمية ولكنها لا تؤثر بشكل كبير، إنني أذكر عندما ظهر التلفزيون قالوا لن يذهب أحد إلى السينما، وهذا لم يحدث، ولكن هناك منافسة كبيرة بالطبع. * هل تعتقد أن ثورة الإنترنت ساهمت في سرعة انتقال عدوى الثورات إلى دول الربيع العربي؟ - يمكن قبول ذلك في ما بين الجهات الناشطة والتي تخرج وتنضم وتفكر، لكنها ما زالت محدودة بالمقارنة مع الشريحة الكبرى من المجتمع. ولكني أتوقع تأثيرا أكبر لها في المستقبل، وفي ألمانيا يوجد حزب لمثل هؤلاء وإن كانوا لا يزالون يمثلون نسبة صغيرة لم تستطع بعد دخول البوندستاج (البرلمان الألماني). * كيف ترى ظاهرة الربيع العربي؟ وهل أفادت الشعوب أم أضرتها؟ -لا لم تضر، ولكن لا توجد وصفة عامة للجميع لأنه تظل لكل بلد خصوصيته، وإدخال عنصر الدين لا شك أنه يعطل لكنه لا يوقف الثورة. والتيار الإسلامي السياسي يريد أن يصور أن الحركات المدنية معادية للدين الإسلامي ويحاول إقناع الشعوب أن الذين يرفضون الدولة الدينية يرفضون القرآن ويصورون الخصوم ككل على أنهم ممولون من الصليبيين. وعلى أي حال أعتقد أن ظاهرة الربيع العربي تأثرت بالإنترنت لكن التأثير الأكبر كان للاستعداد للتمرد على الأوضاع لدى هذه الشعوب بما يعني أنه كان سيحدث سيحدث. * كيف ترى العالم العربي الآن؟ - عندما تخف انفعالات ظهرت بتفاوت الدرجات من مجتمع لآخر بسبب الإسلام السياسي وسوء استخدام العنصر الديني في السياسة وتخطيط القرارات فستهدأ الموجة، وكما قالوا أيام زمان في مصر عن الثورة العرابية بأنها «هوجة عرابي»، أقول إنه عندما تهدأ الهوجة الحالية لتيارات الإسلام السياسي فستعود المياه إلى مجاريها، وأنا متأكد أنه ستنشأ وقتها مجتمعات عربية أفضل، وقد يستغرق الأمر شهورا وربما سنوات تصل إلى عشرين عاما. * وبالنسبة لسوريا، كيف ترى مستقبلها؟ - المسألة صعبة جدا ولا يمكن التوقع، وما يحدث في سوريا ليس مجرد ثورة، وإنما هناك محاولات تحطيم دولة، فبعد أن نجحوا في العراق وجعلوها طائفية بشكل عنيف يحاولون تكرار السيناريو في سوريا. * هل ترى خطورة للدور الإيراني في سوريا؟ - لا أعتقد ذلك لأسباب كثيرة. وأشك في ذلك، قد يكون هناك عدد من أصحاب القرار في طهران ولكن ليست إيران هي التي تسقط سوريا، ولو أمكن إجراء انتخابات حرة وشفافة في سوريا فسيفوز حزب البعث لأنه حزب للوطن كله وليس لفئات أو طوائف، وأعتقد أن العراقيين أيضا يشعرون الآن بالدور الذي كان يقوم به حزب البعث في توحيد الصفوف، وقد نجحت أميركا في دفع العراقيين لعمل قانون لاجتثاث حزب البعث من الأرض العراقية، فكيف يكون ذلك ديمقراطية؟ وأنا أقول إنه حين تنتهي الأوضاع الشاذة في سوريا وتخمد حرائق الأفيون – أفيون استغلال الدين - ستتحرر الشعوب التي عانت من هذا الأفيون طويلا.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر