النائحة المستأجرة على الأرض والقضية!

الدار البيضاء اليوم  -

النائحة المستأجرة على الأرض والقضية

بقلم: سليمان جودة

كل ما في الحروب سيئ، ولكن أسوأ ما فيها أن يقاتل على جبهتها رجال ليسوا طرفاً أصيلاً في القضية التي يدور حولها القتال!
وهذا هو ما بدأت الحرب في أوكرانيا تتجه إليه، وكانت البداية عندما قرر كل طرف من طرفيها الاستعانة بعناصر ليست روسية على الجانب الروسي، ولا هي أوكرانية على خط القتال الأوكراني، ولكنها عناصر جاءت من كل أرض إلا أن تكون هذه الأرض أرضاً روسية أو تكون أرضاً أوكرانية!
ولم يجد سيرغي شويغو، وزير الدفاع الروسي، أي حرج في أن يقول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعطاه الإذن بنقل عدد من العناصر الأجنبية إلى خط القتال في أوكرانيا، وإن هذه العناصر قادمة من الشرق الأوسط، وإن كل عنصر فيهم تقدم بطلب للالتحاق بالعمليات العسكرية، وإنهم - على حد تعبيره - متطوعون بادروا بإبداء الرغبة في التطوع فاستجابت لهم موسكو.
ولسنا في حاجة إلى بذل جهد كبير لندرك أنها عناصر قادمة من الأراضي السورية بشكل أساسي؛ لأن روسيا موجودة هناك من أيام ما يسمى «الربيع العربي»، ولأنها كانت تقاتل بهم وتستخدمهم في مساندة الحكومة السورية في دمشق، ولأن هذه العناصر تقاتل في كل الأحوال بالأجر، ولا فرق عندها بين أن يكون القتال على الجبهة السورية، وبين أن يتحرك شرقاً ليكون على الجبهة الروسية.
ومن المفارقات في هذه المسألة أن الحروف التي تتشكل منها كلمة روسيا، هي ذاتها التي تتكون منها كلمة سوريا، وكل ما تحتاجه حروف الكلمتين هو نوع من إعادة ترتيبها هنا مرة، وهناك مرة أخرى، وهذا تقريباً ما يحدث مع العناصر المقاتلة التي يعاد توجيهها من جبهة سورية قاتلت عليها إلى جبهة روسية ستقاتل عليها!
وقد نقلت وكالات الأنباء صورة للرئيس بوتين وهو يوقع ما يشبه الأمر العسكري بنقل عدد 16 ألفاً من عناصر الميليشيات والمرتزقة إلى جبهة القتال. وهذا العدد يشكل فرقة عسكرية كاملة، إذا تحدثنا بلغة العسكريين الذين يعرفون أن التشكيلات العسكرية المقاتلة تبدأ في السَّرِية ومن بعدها الفوج، ثم تمر بالكتيبة، ومن بعدها اللواء الذي يضم عدداً من الكتائب، وصولاً من بعد ذلك إلى الفرقة التي تجمع عدداً من الألوية.
وعندما يلجأ الروس إلى استخدام فرقة أجنبية كاملة العدد في عملياتهم العسكرية داخل الأراضي الأوكرانية، فهذا معناه أنهم يؤخرون قواتهم ويقدمون هؤلاء الذين يحاربون بأجر، والذين يجيئون إلى مواقعهم الجديدة ومعهم خبرة وتجربة قتالية اكتسبوها في الأراضي السورية.
وكان الأوكرانيون قد سبقوا بالإعلان عن تشكيل ما يسمى «الفيلق الأجنبي»، وقالوا إنه يتشكل من متطوعين جاءوا من كل أرض، وليس من الشرق الأوسط وحده، ولا من سوريا بمفردها، وأن عدد أفراد الفيلق يصل إلى 16 ألفاً من المتطوعين. ولا نعرف كيف يتساوى العدد هكذا على الجبهتين المتقاتلتين، ولكن ما نعرفه أنهما جبهتان دخلتا فيما يشبه السباق، وأن السباق هو في القدرة على تجميع أكبر عدد ممكن من الميليشيات والمرتزقة على إحداهما، ومن المتطوعين على الثانية، وأنه لا مشكلة لدى أي منهما في أن يقاتل السوري سورياً آخر على الجبهة المقابلة، كما ذكرت صحيفة «التايمز» البريطانية في تقرير أخير لها!
والراجح أن هؤلاء الذين يتشكل منهم الفيلق الأجنبي في أوكرانيا، ليسوا من المرتزقة ولا هم من الميليشيات في الغالبية منهم؛ لأن أوكرانيا ليست موجودة في سوريا ولا في الشرق الأوسط لتأتي بهم، ولأن حكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي ليست على قدر من الثراء يجعلها قادرة على الوفاء بأجورهم العالية، ثم تكاليفهم الأعلى عندما ينضمون إلى الصفوف المقاتلة على جبهتها. ولكن هذا لا يمنع أن يكون بينهم مأجورون يحاربون على الجبهة التي تدفع، ويقاتلون في الصف الذي يتكفل الأجر ومصاريف المعيشة!
ومما نشرته «الشرق الأوسط» مثلاً من خلال مراسلها هناك، فداء عيتاني، على لسان متطوع بريطاني وآخر أذربيجاني، يتبين أن النسبة الغالبة من المتطوعين للقتال في الفيلق الأجنبي هُم من المتطوعين الذين جاءوا عن إيمان بشيئين اثنين؛ الأول أن أوكرانيا هي الطرف الأضعف في الحرب الدائرة، والشيء الثاني الذي يؤمنون به هو أنها صاحبة قضية عادلة تدافع عنها، وتدعو العالم الحر إلى أن يقف معها دفاعاً عن عدالة قضيتها.
وبصرف النظر عن مدى صحة ما يعتقده المتطوعون معها في هذا الشأن، فإن هذا هو إيمانهم، وهذا هو اعتقادهم، وهذا هو يقينهم الذي يتحركون على أساسه. وليس أقرب إلى حال كل مقاتل بالأجر على الجبهتين، إلا حال النائحة التي تكلم عنها العرب قديماً فقالوا: إن النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة.
أما النائحة الثكلى فهي المرأة التي فقدت عزيزاً عليها، والتي تظل تبكيه وتذرف الدمع عليه عن صدق في الألم وعن معاناة في الوجع، وأما النائحة المستأجرة فهي المرأة التي يأتون بها لتبكي فقيداً لا تعرفه، ولم يحدث أن رأته في حياتها، ولا يكون مطلوباً منها سوى أن تظل تصرخ عليه وتلطم خديها وتعدد محاسنه، وهي تفعل ذلك بكل حيلة ممكنة، وتتقاضى أجرها في آخر النهار، وتنصرف!
وربما تكون الخنساء في تاريخنا العربي هي أشهر نائحة ثكلى، وهي أصدق النائحات من هذه النوعية من النساء، فلقد بكت أخاها صخراً بما لم يحدث أن بكت به امرأة سواها أخاها، وقد عاشت من بعده تردد بيتها الشهير: فلا والله لا أنساك حتى أفارق مهجتي ويُشَق رمسي!
والشيء المؤكد أنه ليس بين العناصر التي ستقاتل على الجبهة الروسية عنصر من نوع الخنساء في زمانها، ولا كذلك على الجبهة الأوكرانية إلا في أقل القليل ممن آلمهم أن تهجم روسيا على أوكرانيا هذه الهجمة، وليس بين الجيشين من عوامل القوة على أي مستوى ما يجعل القتال بينهما قتالاً بين قوتين متكافئتين.
وكما تغيب المشاعر الصادقة عن النائحة المستأجرة، فنراها تبكي من تبكيه من وراء قلبها، فإن الشيء نفسه يغيب عن المرتزق الذي نراه يدافع عن أرض ليست أرضه، ولا هو يؤمن بقضيتها، ولا بعدالتها، أو نراه يشارك في معركة ليست معركته، ولا هو على يقين في جدواها!
وليس أسوأ من أن يجري امتهان الأرض والقضية في الحرب على أوكرانيا على هذه الصورة السافرة، فيقاتل من أجل الأرض من لا ينتمي إليها، ويدافع عن القضية من لا يعتقد فيها ولا يراها عادلة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

النائحة المستأجرة على الأرض والقضية النائحة المستأجرة على الأرض والقضية



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

جورجينا تثير اهتمام الجمهور بعد موافقتها على الزواج وتخطف الأنظار بأجمل إطلالاتها

الرياض - الدار البيضاء اليوم

GMT 00:01 2018 الأربعاء ,16 أيار / مايو

دجاج على الطريقة الصينية "دجاج كانتون"

GMT 22:00 2017 الأربعاء ,19 تموز / يوليو

الارشيف الوطني ومشجب أسرار الدفاع الوطني

GMT 03:34 2017 الثلاثاء ,10 كانون الثاني / يناير

طرح منزل الكشافة بادن باول للبيع مقابل 3.5 مليون استرليني

GMT 16:43 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

متشرد يوقف "طرامواي’" الدارالبيضاء في الحي المحمدي المغربي

GMT 11:24 2018 الجمعة ,14 كانون الأول / ديسمبر

وفاة الفنان حسن كامي والفنانون ينعوه برسائل مؤثرة

GMT 06:35 2018 الخميس ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر نفط عُمان يرتفع الى 71.14 دولار الخميس

GMT 12:44 2018 الأحد ,14 تشرين الأول / أكتوبر

هوجو جاستون يحرز ذهبية التنس في أولمبياد الشباب

GMT 07:00 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

ألوان ظلال الجفون "الصارخة" تسيطر على موضة الخريف

GMT 22:22 2018 السبت ,14 تموز / يوليو

اكتشفي طرق سهلة و مريحة لتنظيف أواني الطهي

GMT 07:08 2018 الجمعة ,06 تموز / يوليو

تعرف على سبب تسمية الجامع الأزهر

GMT 04:42 2018 الخميس ,14 حزيران / يونيو

حجز أدوية مهربة وغير مرخصة في بني ملال

GMT 17:41 2018 الأحد ,27 أيار / مايو

نجوم الكرة يتعاطفون مع النجم صلاح

GMT 08:51 2018 السبت ,19 أيار / مايو

6 حلول فعالة لعلاج قشرة الشعر الموسمية
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
RUE MOHAMED SMIHA,
ETG 6 APPT 602,
ANG DE TOURS,
CASABLANCA,
MOROCCO.
casablanca, Casablanca, Casablanca