مسرحية «حكاية زهرة» لرائدة غزالة: البحث عن المعنى عبر جماليات تعبيرية

الدار البيضاء اليوم  -

مسرحية «حكاية زهرة» لرائدة غزالة البحث عن المعنى عبر جماليات تعبيرية

تحسين يقين
بقلم : تحسين يقين

نقلت لنا الفنانة رائدة غزالة بيروت زمن الحرب الأهلية عبر حكاية الفتاة سيئة الحظ زهرة، عن رواية للكاتبة اللبنانية حنان الشيخ، الى خشبة المسرح الوطني الفلسطيني-الحكواتي، في القدس، حيث نجلس لنشاهد البنايات أمامنا من خلال شفافيات بيضاء طولية، مغبرة، فيما في العمق بنيان متصدع الحجارة وزجاج النوافذ، فيما تدلى شباك كأنه من عمارة مرتفعة، كان مجالاً لزهرة القادمة من رحلتها السيئة لأفريقيا، لتأمل المارة، والصراع، في الوقت الذي كان والداها يستنكران فعلتها، داعينها لترك الشقة والذهاب لزيارة أقرباء.

جميلاً كان الصعود لأعلى، والهبوط، من خلال ارتفاع النافذة، وشكل الشفافيات الطولية، والعودة إلى الشقة، بذات المستوى معاً، من خلال إبداع القياسات النسبية، وأثر ارتفاع النافذة والبنايات، حيث كانت الشقة-دراما عميقة، على خشبة المسرح، لمشاهدين/ات سرعان ما عادوا الى عام 1976، كنقطة ارتكاز زمني، حيث قاس كل نفسه، طارحاً جامعاً، كم كان عمره ووعيه، وما مر من قبل من تاريخ يعود الى عام 1869، بداية الحرب الأهلية الأولى، وما مرّ من بعد لتاريخ شهدناه أطفالاً فشباباً فكهولاً، عبر تحولات عاصفة ما زالت آثارها حاضرة، في بلد جميل، صار مسرحاً لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية بل والدولية، من خلال تحريك أمراء قبائل الطوائف، وما جلب على لبنان سياسياً واقتصادياً من آثار سيئة، خصوصاً على الأطفال الأبرياء والنساء ومنهن زهرة، التي مثلت هنا نساء النزاعات والصراعات، حيث تسوقها الظروف لتدفع الثمن مرتين، مرة من القوى المتصارعة، ومرة من ذكور تلك الصراعات، الأهل وأصحاب العلاقات السريعة.

وهنا، سنجد أنفسنا، ونحن نشاهد هذه المسرحية الإبداعية متسائلين عن اللحظة التاريخية لا للحرب الأهلية، التي يبدو أنها لم تنته بعد، ولكن عن المكان هنا والزمان، فلسطين 2020؟
سياقان، الأول تاريخي مقتبس من الحياة الاجتماعية والنفسية في ظل الحرب الأهلية، والآخر ما يجري هنا اليوم من نزاعات ارتدت ملابس خضراء، على غير ما في الحقيقة من جفاف لا ربيع، لم تستثن فلسطين التي أصلاً هي تحت الاحتلال. وبالطبع فإن نساء فلسطين، يعانين الضعف هنا، كنساء في ظروف كولونيالية ونساء يعشن ظروف الاختلاف-الانقسام السياسي.

ترجمت رائدة غزالة أحداث الرواية الى عالم المسرحية، فاختارت ما أرادت من أحداثها، بما يكفي لبناء دراما مسرحية؛ فكانت زهرة، وأسرتها بشكل خاص، الحاضرين، وسط إطلاق النار الذي غمر صوتياً ثلث زمن العرض، أما باقي الفصول خارج فضاء الأسرة، فكانت تعبر عنه زهرة، الفنانة المبدعة ياسمين شلالدة من خلال مونولوجات تذكُّر.
لكن برغم ذلك، تجد زهرة بعد أن ترفض مصاحبة والديها ترك بيروت الى قريتهم في الجنوب، تجد في هذه الوحدة مجالاً لإعادة الاكتشاف والاختيار، والذي يصدمنا في النهاية، حيث يصبح حتى الاختيار الحرّ هنا، والعاطفي مأساة، في زمن الحرب الأهلية الذي سلب الناس براءتهم، والذي جعل من أخيها أحمد محاربا كمأجور ضد بلاده في عصابات المرتزقة التي سطت على أمن الوطن؛ من باب أنه هو ورفاقه يفضلون هذه العمالة البائسة عن عمل شريف.
لذلك، كان لا بد من كل هذا التوتر الذي انعكس أكثر ما انعكس، على زهرة، من أول ظهور لها وهي منكمشة تقضم أظافرها، حتى توترها الأخير وهي تتعرض للقنص مع سابق قصد، من عشيق كانت تظنه اختياراً عاطفياً بعد عصفت بها الحياة قبل ذلك، حيث لا يتقبل القناص فكرة حملها منه، لا واقعاً، ولا رمزاً، كأنه لا يريد فعلاً ما يذكره بتلك الأيام الهمجية، فلا يتناسب خطو جنين يتكون مع موت محقق.
زهرة التي أصلاً بدأت رحلة معاناتها قبل الحرب، من تعرضها للخداع من قبل عاشق كاذب سطا على عذريتها، باسم الحب، تماماً كما يسطو الديكتاتوريون على الأوطان باسم الوطنية (ثمة رمزية محتملة هنا ناقدة ونقدية)، وحين تفرّ خارج البلاد للزواج، يرفض الزوج الجديد نتيجة الحب القديم، والذي أيضا يأخذها الى متاهات أخرى من التحرش. كأن الكاتبة-والعرض هنا للمخرجة، يدمغان ذلك الزمن بدمغة الغدر واللاإنسانية.
تعود زهرة بعد كل هذه البشاعة، والاضطهاد النفسي والاجتماعي والجنسي الى بيروت، مركز الحرب الأهلية التي لم تستثن أحداً خارجها، حتى المقاومين الفلسطينيين في زمن صعب فيه عدم الاصطفاف في جانب هنا أو هناك. حتى زهرة وهي تطل من شباكها استنكرت مهاجمة المقاومين، كونها تدرك في الوعي واللاوعي أن هؤلاء إنما تم توريطهم في حرب ليست هدفا لهم، أو هكذا توحي الكاتبة حنان الشيخ.
في بيروت بلد الحرية، لا تجد زهرة من ترتبط به غير ذلك القناص البيروتي، العابث والعبثي، حين تضطر لغسل ملابسها في بيت قريبتها، فتجده، وتبدأ فصول علاقة مختلة، كأن النص-العرض يقول ومن ستجد غيره في هذا النزاع الأهلي أصلاً ليقبل بمثل هذه العلاقة!
وهي أيضا لم تجد غيره، فليس لديها اختيارات لا كثيرة ولا قليلة، لذلك في لحظة تأمل وحكم، بررت ذهابها لذلك القناص من باب إلهائه عن قتل متجولين آخرين في شارع تلك البناية.
خلال دقائق، تصبح زهرة بكامل حظها الأسوأ، المغدورة الجديدة على يد القناص العاشق، في مشهد عمّق قسوة هذه النزاعات، فكيف لعاشق مارس الحب قبل دقائق، قتل حبيبته!؟
هنا يكمن بيت قصيد الرواية-العرض، حيث تشكل مأساة زهرة الأخيرة وجعاً إنسانياً عميقاً وصادماً صعب التقبل في أي ظرف وأي مكان.
ثمة صدمات تلقتها زهرة كصفعات أكان ذلك من الأحباب-العشاق او من الأهل الذين يمارسون عليها نوعاً من القمع، الأب والأم والأخ، والزوج والعشيقين، وهم في معظمهم ذكور.
لقد حاولت زهرة ليس فقط اختيار الحب، بل حاولت ان تعيش حياة عادية، تكوين أسرة، والخلاص من كل هذه العبثية والقمع في عالم البيت وعالم السياسة والحكم.
نجح طاقم التمثيل فعلاً، خصوصاً بطلة العرض ياسمين شلالدة، التي أدت دور زهرة بتوتر إبداعي الى آخر مدى. كما أقنعتنا إيمان عون أم زهرة، من خلال حركتها الرشيقة وتماهيها مع الدور، وهي الفنانة المعروفة، كما استطاع الممثل محمد الباشا النجاح في تمثيل دورين مختلفين: الأب كاره الحرب الأهلية، والمستقل عن تلك القوى المتنازعة، والأخ أحمد أحد المقاتلين المرتزقة، أما الممثل ميلاد قتيبة فقد أدى دور القناص الذي يقتل دون مبرر ولا توتر.

إنها فعلاً خلود الروائع!
الرواية للكاتبة حنان الشيخ، والتي تم إخراج روايتها «مسك الغزال» من قبل من خلال مسرح عشتار، حيث جاء العملان في سياق تضامن الكاتبة مع النساء ونقد العلاقات الاجتماعية والسياسية المحركة لها بما فيها من علاقات قوة، اجتمعت جميعها بيد الذكور.
المسرحية من إعداد: ماثيو سبانجلير ورائدة غزالة. مساعد المخرجة: شبلي البو، إضاءة وصوت وتنفيذ ديكور: عماد سماره ورمزي الشيخ قاسم، سينوغرافيا: شادي مجلطون، تصميم صوت: جون حنضل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مسرحية «حكاية زهرة» لرائدة غزالة البحث عن المعنى عبر جماليات تعبيرية مسرحية «حكاية زهرة» لرائدة غزالة البحث عن المعنى عبر جماليات تعبيرية



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 16:07 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

طفل صغير يتفاعل مع فاجعة الصويرة في المغرب

GMT 01:32 2018 الإثنين ,12 شباط / فبراير

غاريدو سعيد بالفوز في أول ديربي له أمام الوداد

GMT 04:50 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

فندق فيلا هونيغ لقضاء شهر عسل مختلف ورائع

GMT 13:23 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

آرسنال يستغنى عن تشيك بعد أخطائه المتكررة

GMT 23:58 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

جمعية سلا في مجموعة قوية ببطولة دبي للسلة

GMT 05:49 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

منتخب "مصر" لكرة اليد يفوز على هولندا في "دورة لاتفيا"

GMT 15:09 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

بيريز يشيد بقرار مبابي برفض ريال مدريد

GMT 05:15 2017 الجمعة ,08 كانون الأول / ديسمبر

داليا كريم على وشك الحصول على لقب "سفيرة العطاء"

GMT 14:52 2017 الجمعة ,01 كانون الأول / ديسمبر

الرجاء تألق عالميًا قبل مجيء بودريقة

GMT 13:45 2016 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

أربع نصائح للحمل بولد

GMT 00:46 2016 الأحد ,23 تشرين الأول / أكتوبر

الاعلان عن حقيقة شخصية زوجة أب الأميرة ديانا "رين سبنسر"

GMT 11:39 2017 الأحد ,09 تموز / يوليو

رؤيتك للحياة

GMT 14:59 2014 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلاق 1800 من الحمام الزاجل في سماء احتفالاً باليوم الوطني

GMT 01:16 2015 السبت ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

المصممة شريهان أحمد تؤكّد أنّ "الكروشيه" يحقق الأناقة

GMT 10:45 2017 الثلاثاء ,26 أيلول / سبتمبر

اعتقال الناشطة في "حراك الريف" المغربي نوال بنعيسى
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca