عن الراحل محمد عمارة

الدار البيضاء اليوم  -

عن الراحل محمد عمارة

عبد الغني سلامة
بقلم : عبد الغني سلامة

انتقل إلى جوار ربه المفكر المصري الإسلامي د. محمد عمارة، عن عمر ناهز الثمانين عاماً، تاركاً وراءه مئات الكتب والدراسات.. ومثل أي مفكر عميق، سيخلّف وراءه أيضاً زوبعة من المواقف المتباينة بين مؤيد له، ومعارض لأفكاره.من كتابه «تيارات الفكر الإسلامي» تعرفتُ لأول مرة على أفكاره.. فاعتقدت بداية أنه من المعتزلة، ففي كتابه القيم هذا، تطرق بالشرح الوافي لمعظم تيارات الفكر الإسلامي التي نشأت في صدر الإسلام، ومع أنه لم يذم أيا منها، ولم يتحيز لتيار أو فرقة دون الأخرى، بانياً دراسته بشكل موضوعي أكاديمي، إلا أنني لمست فيه إعلاءً لفكر المعتزلة، مبيناً فضلهم في إعادة الاعتبار لمكانة العقل وأهمية التفكير.

وفي كتابه «الجامعة الإسلامية» امتدح أفكار محمد عبده والأفغاني والكواكبي، وأيد نهجهم، فاعتقدت أنه من داعمي فكر النهضة والتجديد.ومن متابعتي لبعض كتبه الأخرى، ومقالاته كنت أقرأ عبارات «حداثية» وأفكاراً غير تقليدية، لا تجدها في خطاب الإسلام السياسي السلفي، مثل اهتمامه بقضايا القومية العربية، وتركيزه على مفاهيم العدالة الاجتماعية، والثورة على الظلم والاستبداد، منطلقاً من الدائرة الإنسانية، داعياً للتفاعل الحي مع الحضارات والشعوب المختلفة، والتعايش بين الأديان.. وتلك كانت من قسمات مشروعه الفكري.

وإذ بدأ حياته الفكرية «ماركسياً»، فقد انتهى «إسلامياً»، ومع أنه لم ينتمِ لأي تنظيم سياسي إسلامي، وظل يرى نفسه «مستقلاً»، إلا أن خصومه وصفوه بمنظر الحركات الإسلامية.اعتقل في أواخر الخمسينيات، على خلفيته الماركسية، بيد أنّ السجن كان بداية تحولاته الفكرية المتعددة، فأخذ يبتعد عن اليسار، معتبراً أن «العدالة الاجتماعية» يمكن أن تتحقق في الإسلام فقط، وليس من خلال الصراع الطبقي وأطروحات اليسار، فتفرغ بعد خروجه من السجن عام 1964 لمشروعه الفكري؛ فحصل على ليسانس اللغة العربية والعلوم الإسلامية من جامعة القاهرة عام 1965، وعلى الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية عام 1975. وقد ركز في كتاباته على مواجهة ما اعتبره «الفكر التغريبي»، والرد على العلمانيين.. ومن مؤلفاته: «التفسير الماركسي للإسلام»، «معالم المنهج الإسلامي»، «الإسلام والمستقبل»، «نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام»، «الغارة الجديدة على الإسلام»، «الرد على شبهات العلمانيين».

وشغل «عمارة» عدة مواقع، منها: عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ورئيس تحرير لمجلة الأزهر، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، كما كان عضواً باللجنة التأسيسية لدستور 2012.
لم يترك أثراً ذا بال في مرحلته الماركسية، ربما لحداثة عمره آنذاك، بيد أنه صار واحداً من أبرز المفكرين الإسلاميين، ولكنه ظل مثيراً للجدل.. إذ يراه البعض إسلامياً متشدداً، وأزهرياً تقليدياً، وسلفياً.. ويراه آخرون معتدلاً، تنويرياً، فيه لمسة من الحداثة.. لكن صفته الأشهر ظلت «إسلامي مستقل»، دافع عن الإسلام، وآمن بوحدة الأمة الإسلامية، واهتم بقضاياها المعاصرة.
مثّل الراحل «المدرسة الوسطية الجامعة»، إذ سعى للتوفيق بين العناصر الإيجابية للتيارات والجماعات الإسلامية المختلفة، ليجسد موقفاً جديداً ومغايراً، فالعقلانية عنده تجمع بين العقل والنقل، والإيمان يجمع بين الإيمان بالغيبيات والإيمان بالعلم التجريبي المادي.. ولكنه لم يصل إلى المدى الذي وصله «الحداثيون» و»التجديديون» (أمثال خليل عبد الكريم، حسن حنفي، نصر أبو زيد)، ولم يكن من أنصار العنعنة والنقل (مثل أغلب فقهاء الأزهر)، ولم يكن سلفياً جامداً متطرفاً (مثل وجدي غنيم، ومحمد حسان وغيرهم من نجوم الفضائيات)، ولم يتبنَّ فكرة تنقيح التراث، وتخليصه من الشوائب (كما دعا إسلام البحيري، ومحمد عبد الله نصر، وزكريا أوزون وغيرهم)، وظل مدافعاً عن منهج الأزهر بكل ما عليه من ملاحظات (من قبل القرآنيين، ومن قبل دعاة التنقيح والتجديد).
وفي مقالته «الحاكمية بين الغزالي وقطب»، كتب: «الشيخ الغزالي لم يسمع بفكرة الحاكمية إلا بعد موت حسن البنا، والحاكمية عنده كلمة دخيلة، فإذا كان لا حكم إلا لله، فهي كلمة حق أريد بها باطل».
وأضاف: «الحاكم يأخذ من القرآن والسنّة ومن الأدلة الأخرى، مثل الاستحسان والاستصحاب والاستصلاح، وكون الإنسان يشرّع في الفروع، وفي شرح القواعد، فمن حقه أن يشرّع دستوراً، والقاعدة هي الشورى «وأمرهم شورى بينهم».. أي الحكم لله، والإنسان يضع القواعد، والأمة هي مصدر السلطة، والحاكم عليه أن يجري انتخابات، هذه تشريعات العقل البشري فيها أساساً، تعتمد على قاعدة حكم الله، أي الشورى، والفروع متروكة للقياس والاستصلاح والاستحسان».
لكن عمارة في مقالة أخرى انتقد العلمانيين باتخاذهم كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، مرجعية لهم في نقدهم فكرة الدولة الإسلامية، باعتبار أن الشيخ عبد الرازق تراجع عن أفكاره.
كما انتقد في مقالة مطولة فكر وممارسات حركات الإسلام السياسي، ذاكراً بعض أخطائها، مثل الخلل في فهم التعددية، وفي الإيمان بجدواها، والخلل في التمييز بين الأصول وبين الفروع والجزئيات والوسائل المتعلقة بالمتغيرات الدنيوية، والخلل في علاقة الذات بالآخر، والخلل في فهم العلاقة بين التاريخ والعصر، وعلاقة الأموات بالأحياء، وعلاقة الموروث بالإبداع، والخلل في فهم العلاقة بين التربية الروحية والتربية السياسية والتنظيمية، والخلل في فهم العلاقة بين الطاعة والحرية.
ما يحسب على «عمارة»، خوضه سجالات ضد الكنيسة القبطية، واتهامه بإهانة المسيحية ووصفها بالفاشلة، الأمر الذي قد يؤجج فتناً طائفية.
وبعد مناظرته الشهيرة (معرض القاهرة للكتاب 1992)، التي وقف فيها إلى جانب الغزالي والهضيبي ضد فرج فودة، حول مفهوم الدولة الدينية والدولة المدنية، أيد عمارة فتوى الغزالي بقتل فرج فودة، باعتباره مرتداً.. وهذا موقف غريب وغير مفهوم من مفكر؛ فالمفكر الحقيقي لا يقتل زميله المفكر، ولا يسكت عن قتله، ولا حتى يسمح باضطهاده، مهما بلغت درجة الخلاف بينهما، بل يناقشه ويحاججه بالمنطق والعقل والحوار.
كما أن عمارة وقف موقفاً سلبياً من محنة المفكر نصر حامد أبو زيد، حين تم تكفيره، وتفريقه عن زوجته.
الأمر الذي يثير السؤال، حول جدية ومصداقية «الإسلاميين»، من مبدأ التعددية، واحترام الرأي الآخر، وحرية الفكر والتعبير.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن الراحل محمد عمارة عن الراحل محمد عمارة



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 16:07 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

طفل صغير يتفاعل مع فاجعة الصويرة في المغرب

GMT 01:32 2018 الإثنين ,12 شباط / فبراير

غاريدو سعيد بالفوز في أول ديربي له أمام الوداد

GMT 04:50 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

فندق فيلا هونيغ لقضاء شهر عسل مختلف ورائع

GMT 13:23 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

آرسنال يستغنى عن تشيك بعد أخطائه المتكررة

GMT 23:58 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

جمعية سلا في مجموعة قوية ببطولة دبي للسلة

GMT 05:49 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

منتخب "مصر" لكرة اليد يفوز على هولندا في "دورة لاتفيا"

GMT 15:09 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

بيريز يشيد بقرار مبابي برفض ريال مدريد

GMT 05:15 2017 الجمعة ,08 كانون الأول / ديسمبر

داليا كريم على وشك الحصول على لقب "سفيرة العطاء"

GMT 14:52 2017 الجمعة ,01 كانون الأول / ديسمبر

الرجاء تألق عالميًا قبل مجيء بودريقة

GMT 13:45 2016 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

أربع نصائح للحمل بولد

GMT 00:46 2016 الأحد ,23 تشرين الأول / أكتوبر

الاعلان عن حقيقة شخصية زوجة أب الأميرة ديانا "رين سبنسر"

GMT 11:39 2017 الأحد ,09 تموز / يوليو

رؤيتك للحياة

GMT 14:59 2014 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلاق 1800 من الحمام الزاجل في سماء احتفالاً باليوم الوطني

GMT 01:16 2015 السبت ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

المصممة شريهان أحمد تؤكّد أنّ "الكروشيه" يحقق الأناقة

GMT 10:45 2017 الثلاثاء ,26 أيلول / سبتمبر

اعتقال الناشطة في "حراك الريف" المغربي نوال بنعيسى
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca