حرب «الحقّ» على الحقيقة!

الدار البيضاء اليوم  -

حرب «الحقّ» على الحقيقة

حازم صاغية
حازم صاغية

ليس بلا دلالة أنّ «الحقّ» و«الحقيقة» يملكان، أقلّه في اللغة العربيّة، أصلاً لغويّاً واحداً. مع هذا، فالفوارق بين الاثنين كثيرة. ذاك أنّ الحقّ مفهوم كبير ومجرّد وقد يكون خلافيّاً، يصعب على من يدّعي امتلاكه أن يبرهن ذلك دائماً. و«الحقّ» قد يتشارك فيه مدّعيه مع آخرين يختلفون عنه أو يخاصمونه، لكنّهم هم أيضاً يدّعونه أو يدّعون جزءاً منه. أمّا الحقيقة فحدثٌ ملموس، كبير أو صغير، يصعب أن يقبل سوء التأويل، ويصعب أن يقبل المشاركة بين طرفيه، إذ الجاني واضح والمجنيّ عليه واضح أيضاً. إنّه حدث يمكن أن يُبرهَن وجوده، ويمكن كشفه إذا استتر أو حُجب. وهذا لا يتمّ أساساً عبر الأفكار والسجالات، إذ يلعب البحث والتجريب والتحقيق القضائيّ وجهاز الشرطة الأدوار الكاشفة فيه.

والحقّ ليس بالضرورة جمعاً للحقائق أو مراكمةً لها، لكنّه بالتأكيد ليس نقيضها ولا عدوّها. فحين يغدو الأمر كذلك، نكون أمام مشكلة في حَقّيّة هذا الحقّ، وفي زعم أصحابه أنّه حقّ.
يحصل هذا خصوصاً مع الذين ينسبون إلى أنفسهم امتلاك كلّ حقّ وكلّ الحقّ. وأحياناً لا تكفيهم الحجج الأرضيّة لتعزيز زعمهم فيدّعون النطق بلسان الله كي يمتّنوا دعواهم. هكذا يعيّنون أنفسهم حزباً لله، أو أنصاراً لله فيستدرجون المقدّس إلى ملعبهم.

غير أنّ مسارهم نفسه قد يضعهم في مواجهة كلّ الحقائق: يكذّبونها أو ينفونها أو يزيّفونها أو يقمعونها أو يقتلون العارفين بها منعاً لانكشافها. هؤلاء تعمل الحقائق ضدّ حقّهم، ومَن يكون حالهم كهذا يصعب أن يكون حقّهم حقّاً.

وصِدام «الحقّ» والحقائق في منطقتنا، وفي العالم، قديم نسبيّاً. ودائماً كان «الحقّ» شكّاكاً بالحرّية وبالقضاء وبالأرقام لأنّها كلّها، وبطرق مختلفة، قد تقود إلى الحقيقة. لكنّ الأمور لا تدوم طويلاً هكذا. فبعض ذاك الحقّ المطلق ينقلب ذريعة للطغيان. وبعضه يتجاوزه الزمن. وبعضه تمتحنه التجارب فيرسب في امتحانها... في المقابل، قد يزداد عدد الذين يعرفون أكثر، كما قد يزداد عدد الذين يكتشفون بلحمهم الحيّ أنّ كلفة هذا «الحقّ» عليهم أكبر كثيراً من كلفة عدمه. وأيضاً قد يزيد عدد الذين تضجرهم إعلانات ذاك «الحقّ» التي لم تتغيّر كثيراً منذ الخمسينات. والأهمّ ما قد يتبيّن للكثيرين من أنّ ذاك «الحقّ» مصدر سلطة وارتزاق لدعاة «الحقّ» أنفسهم، لكنّه مصدر إخضاع ونهب لهم.

على العموم، يغدو هذا «الحقّ» بالتدريج نقيضاً للحقيقة، عاجزاً عن التعايش معها، بل يغدو شرطُ استمراره استئصالَ الحقائق ووأدها.

وهناك حالات نموذجيّة باتت معروفة جدّاً في الإصرار القسريّ على نفي التباين بين «الحقّ» والحقيقة. في الأنظمة التوتاليتاريّة مثلاً يستمرّ زعم التوافق بين الحقائق العلميّة وغيرها وبين «الحقّ» الذي تدافع عنه تلك الأنظمة. لهذا تلجأ أنظمة «الحقّ»، قبل أن تسقط، إلى تزوير الحقائق أو فبركتها، وإلى تعميم الكذب، ومعاقبة من يروي مشاهداته أو يقدّم معطيات صلبة يستقيها من الواقع وتناقض ما يقوله «الحقّ». الحقيقة تغدو، وفق تعبير بعثيّ شهير، «إيهاناً لنفسيّة الأمّة». وقد سبق للباحثة الأميركيّة ليزا ويدين أن وصفت الكلام في سوريّا الأسد بمعادلة «كما لو أن»، أي تعالوا نكذب ونتظاهر بأنّنا نصدّق. قبل ويدين، حدّثنا شيزلو ميلوش، الشاعر والروائيّ البولنديّ، في كتابه «العقل الأسير»، عن تحوير الكلام وتزييفه في ظلّ الشيوعيّة البولنديّة، واعتماد «الكتمان» أو التقيّة في تواصل لا يصل أحداً بأحد. قبل أيّام، اقترح علينا الزميل عمر قدّور، ساخراً بالطبع، أن نقول إنّ إسرائيل قتلت لقمان سليم. هكذا نطوي الموضوع ونخنق الحقيقة على النحو الذي يشتهيه أصحاب «الحقّ».

وللبنانيّين تحديداً، كان مدهشاً ما تعلّموه منذ 2005. فبعد اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، ثمّ السياسيّين والإعلاميّين والضبّاط الذين اغتيلوا تباعاً، باتت معرفة الحقيقة مطلب المطالب. لكنْ بعد عام فحسب، وعبر حرب تمّ اقتيادنا إليها، عاد الاستنجاد بـ «الحقّ» لتعطيل الحقيقة: يا لله! إنّ إسرائيل في مواجهتنا ووراءها أميركا، وتريدون معرفة القاتل! المقاومة وُضعت في مقابل القضاء. ما يستحيل التأكّد منه وُضع في مواجهة ما يمكن التأكّد منه. «الحقيقة» الوحيدة المقبولة هي القول إنّ إسرائيل هي التي قتلت الحريري. إنّها ما يطابق «الحقّ». من يقول العكس يبرّئ إسرائيل!

... على مدى سنوات طويلة والحقيقة تعمل عندنا ضدّ «الحقّ». على مدى سنوات طويلة و«الحقّ» يعمل ضدّ الحقيقة. ينكرها. يزوّرها. يخفيها. يقتل حامليها. هذا لا يمكن، على الإطلاق، أن يكون حقّاً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حرب «الحقّ» على الحقيقة حرب «الحقّ» على الحقيقة



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 01:24 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

الأمتعة الروبوتية تقدّم خاصية مميّة للتعرّف على الوجه

GMT 04:04 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

أيمن طاهر منزعج من تحميل حراس المرمى للهزائم

GMT 06:37 2018 الأربعاء ,10 كانون الثاني / يناير

ميرفا قاضي تفاجئ جمهورها بأغنية “A Fleur de Toi” بصوتها

GMT 21:54 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

تنظيم حفل الفروسية السنوي تحت رعاية ولي العهد

GMT 03:01 2017 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

ريهانا تطل بألوان جريئة لأحمر شفاه Mattemoiselle

GMT 21:28 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

فوز الأهلي و سبورتنج فى دورى ناشئين اليد المرتبط

GMT 14:42 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

مدافع بورنموث يُشيد بمحمد صلاح ويُحذِّر من خطورته

GMT 13:29 2017 الأحد ,26 آذار/ مارس

طرق تجويد التعليم
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca