التمييز والخراب

الدار البيضاء اليوم  -

التمييز والخراب

د. آمال موسى
بقلم : د. آمال موسى

أثبتت الأحداث والتجارب وخاصة النتائج أن الإخفاقات التي عرفتها أجزاء مهمة ومفصلية في مخططات التنمية في البلدان العربية، إنما تعود بالأساس إلى أسباب من خارج العملية التنموية ذاتها، ولكنها مؤثرة جداً في تحديد النجاح والإخفاق.
والملاحظ أن هذه الأسباب ما زالت لا تحظى بالاهتمام والوعي بأثرها السلبي في جعلنا لا نتقدم بالقدر المطلوب، إضافة إلى عدم فهم ضعف النتائج أو تواضعها.
أولاً من المهم التوضيح أن كل عملية تنمية أو مشروع تنموي يمثل الإنسانُ عمودَه الفقري وهو الفاعل الرئيسي. بمعنى آخر فإن الإخفاق أو عدم بلوغ الأهداف المرسومة ليس بالضرورة يعود إلى خلل أو نقائص في الاستراتيجية المعتمدة أو الأموال المرصودة.
في هذا السياق من المقاربة التي تضيء ما هو خارج المشروع التنموي نفسه، نعتقد أن ما يتميز به النسق الثقافي العربي من تمييز يُشكل سبباً رئيسياً في التعثرات القائمة في برامجنا ومشاريعنا. وهو ما يعني أن البُعد الثقافي المُهمَل الذي لا نمنحه ما يستحق من اعتبار يفعل فعله، ويعلن عن تأثيره بشكل يجعلنا أمام أمر واقع. فالتمييز الحاصل في مجتمعاتنا يُمثل عثرة كبيرة مما يحتم إيلاء التمييز من يستحق من تغيير ثقافي أساسه النقد الاجتماعي والمناصرة والتوعية، وأيضاً التعويل على أثر التشريعات الجديدة في محو أعراف التمييز، وخلق واقع اجتماعي جديد تحميه تشريعات مانعة للتمييز.
إن التمييز مؤذن بالخراب: التمييز بين الجنسين، والتمييز على أساس العِرق أو المعتقد، والتمييز بين الجهات والمركز، والتمييز بين الفقراء والأغنياء... فالتمييز منتج للاحتقان الظاهر والمخفي، وهو قوة سلبية طاردة ومانعة لتركز قوة الكل وذكاء الجميع؛ إذ إن التمييز ينطوي على تفاضلية وتراتبية وتصنيف، وهو ما ينتج بدوره هيمنة لفئات على أخرى.
ولا شك في أن الحديث عن مشكلة التمييز التي نعاين مظاهرها في العقليات والممارسات الاجتماعية وفي القوانين يأخذنا بالضرورة للحديث عن المساواة التي هي الهدف وهي الضامن لنجاح السياسات والمشاريع التنموية. ذلك أن المساواة تجعل من الجميع معنيّاً؛ لأنها توفر الشعور بالاعتراف. وهنا نتساءل: إلى أي حد يمكن الانطلاق بثقة في مسيرة تنموية من دون تذليل عقبة التمييز على أساس الجنس والمعتقد والعِرق والمستويين الاجتماعي والاقتصادي ومكان النشأة، وغير ذلك من الأسس الكثيرة المسكوت عنها، التي بموجبها تتمتعُ فئات بأولوية من خارج النسق العقلاني الذي نروم تجذيره.
يبدو لنا أن دور النخب الأكثر إلحاحاً اليوم هو تعبيد الطريق لقطار التنمية وتنقيته حتى تنجح التنمية وتفي بوعودها. ويتمثل تعبيد الطريق في معالجة ظاهرة التمييز التي تمثل خاصية متغلغلة في النسق الثقافي العربي بشكل عام، وفي كل الأنساق الثقافية الكبرى، باستثناء التي عاشت القطيعة بحكم الجهد التحديثي الجبار الذي قامت به، ومكّن مجتمعاتها من الانتقال إلى العقلنة والمساواة وتجاوز المعيارية في التصنيف.
ولعل ما نعيشه من أرقام مفزعة في ظواهر العنف والإرهاب والجريمة والانحراف إنما هو نتاج في بُعد أساسي لمسألة التمييز. وهنا نسجل الخسائر التي يتكبدها المجتمع بسبب التمييز، وهي خسائر مالية ونفسية واجتماعية.
لم يعد من الممكن في العصر الحالي الاستمرار في ثقافة التمييز، وأي تأخير هو مضيعة للزمن الاجتماعي، وإهدار للجهد وللمال وللاعتمادات. لذلك من المهم أن نوضح نقطة أن التنمية تنجح عندما نزيل من أمامها ما يمنع بلوغها الأهداف. كما أن التنمية ليست محصورة في جزء بعينه، أو أنها فعل منغلق لا يكترث بالبيئة الاجتماعية وبالثقافة السائدة فيه.
من جهة ثانية قد آن الأوان للاعتراف بالمجتمع بكل مكوناته، وهو اعتراف علاوة على موضوعيته وواقعيته، فإنه يتميز بالذكاء، باعتبار أن توسيع رقعة الاعتراف تفيد آلياً في تحقيق المزيد من الاندماج الاجتماعي، وهو الضامن لنجاح التنمية أكثر من الأموال المرصودة للمشاريع. فالاعتراف قوة وطاقة تمنح صاحبها القدرة على الفعل والإيجابية والمشاركة، وهي عناصر قوة أي مجتمع يروم التقدم، ويمارس التقدم من خلال عدم التمايز.
وكي نضرب مثالاً على خطورة التمييز نشير إلى ما قامت به العديد من البلدان العربية في الاهتمام بمدن من دون أخرى، فتحولت مناطق ريفية إلى مدن فيها كل المرافق وعصرية جاذبة للسياحة وللاستثمار، وظلت في الوقت نفسه مناطق أخرى تعاني الفقر وبائسة في البنية التحتية، وطاردة للاستثمار ولشبابها ولسكانها، مما جعل هذه المناطق مهمشة وفي حالة تململ تظهر ثم تغيب. وهذا أقسى مثال في التمييز، ومثل نقطة سوداء في مخططات التنمية في العديد من بلداننا. فالتمييز بين المناطق والمدن هو تمييز مُركّب؛ لأنه يشمل آلياً كافة أبعاد المناطق التي تمثل ضحية التمييز، وهو ما نعبر عنه أحياناً بالتوزيع غير العادل للثروات.
إن التمييز لا يمكن أن يستمر أكثر، ويكفي ما تسبب فيه في تأخر وضعية المرأة، وفي عدم استفادة أوطاننا من كل نسيجها المتنوع ثقافياً. فالتمييز كما الظلم (وهو مظهر من مظاهر الظلم) مؤذن بالخراب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التمييز والخراب التمييز والخراب



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 17:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدًا وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 06:25 2018 الأحد ,29 إبريل / نيسان

أفكار متنوعة وراقية لديكور حفلات الزفاف

GMT 03:33 2018 الثلاثاء ,27 آذار/ مارس

الهاتف Huawei Y7 2018 يظهر في صورة رسمية مسربة

GMT 13:31 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

حسام عاشور على بُعد 3 خطوات مِن الأكثر تتويجًا في العالم

GMT 05:33 2018 الأربعاء ,10 كانون الثاني / يناير

التحقيق مع مدير بنك اختلس 600 مليون سنتيم في الجديدة

GMT 13:54 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

أبرو يحرز رقمًا قياسيًا في عدد الأندية التي لعب لها

GMT 02:55 2017 الأحد ,17 كانون الأول / ديسمبر

الأصفر يعتبر لونًا مبهجًا يجلب السعادة إلى المنزل

GMT 15:09 2016 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

افتتاح مصنع جديد في طنجة لإنتاج الورق المقوى

GMT 23:44 2015 الخميس ,03 كانون الأول / ديسمبر

بنعاشور حارس "الوداد" مطلوب في سوشو واتحاد طنجة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca