آخر تحديث GMT 18:37:04
الدار البيضاء اليوم  -

بنسالم حميش يهدي "شذرات فلسفية" إلى "المتعزَّلين والمتعزَّلات"

الدار البيضاء اليوم  -

الدار البيضاء اليوم  - بنسالم حميش يهدي

الشاعر المغربي بنسالم حميش
الرباط - الدار البيضاء اليوم

وأما الشاعر فإنما يضع أسماء لأشياء موجودة، وربما تكلم في الكليات، ولذلك كانت صناعة الشعر أقربَ إلى الفلسفة". (ابن رشد، تلخيص كتاب أرسطو في الشعر).

"الشعر الفلسفي في العمق، لكن من حيث هو قدرٌ قبل كل شيء، فإن عليه أن يكون فلسفيا بنحو لاإرادي". (شارل بودلير)

عن الكتابة الشذرية

"الشذر، كما نقرأ في لسان العرب، قطع من الذهب يلقط من غير إذابة الحجارة، ومما يصاغ من الذهب فرائد يفصل بها اللؤلؤ والجواهير (...) وقال شمر: الشذر هنات صغار كأنها رؤوس النمل من الذهب تجعل في الخوق، وقيل: هو يُفصل به النظْم، وقيل: هو اللؤلؤ الصغير، واحدته شذرة".

ولعل في هذه الصور والتشبيهات الحسية ما يعبر مجازياً عن كنه الكتابة الشذرية وطبيعتها. إنها قطع وفرائد تلقط أو تصاغ من معدن كريم وطاقة الانسان الخلاقة، ألا وهو الفكر.

ويضيف لسان العرب، «تشذرت الناقة إذا رأت رعياً يسرها فحركت برأسها مرحاً وفرحاً». وكذلك شأن الكتابة الشذرية في حقول الفكر اللانسقي، حيث تجد مرتعها الطبيعي وهواءها الضروري. إنها في صراع الأفكار والمذاهب لا تحسن إلا التشذر، أي "النشاط والسرعة"، من حيث إنها، كأسلوب ومزاج، تعمل بالتحريك السريع الخاطف، وبالكرِّ والفر، وتقوم على ذاكرة وحساسية خاصتين بعقد الوجود الانساني وبمكامن الذات ومضاميرها.

لذا، فهي في مرتفعات المتون والحمولات تخشى وتهرب من فراغ كل حشو وكل إطناب لتُحكم التركيز والاقتصاد في ما يتسنى لها وصفه واستثماره على صعيد الكينونة والأعراض.

إن الكتابة الشذرية لا تقوم على الاحتراف ولا على الهواية. وإن كانت تأتي تفاريق وشذرات فلأنها تتعب حتى من الكتابة الكثيفة المتصلة نفسها ولا تبرر اعتمالها الظرفي المتقطع إلا بالحاجة القصوى والضرورة الفادحة.

وهذي شذراتي إلى المتعزَّلين والمتعزَّلات

-1-

«أن نحيا معناه أن نكون لأمدٍ مديدٍ مرضى». هذا قولُ سقراط الذي أنكره نيتشه وتأبَّاه، هو المريضُ مدى الحياة. وحيالَ سيول الأحكام ونقائضها، كل نفسٍ بما تمثلت وجرّبت رهينة. وعليه، الحياةُ الحرة المسؤولة، في ظني وتقديري، انتقالٌ من تشوقٍ إلى تشوق، وإلا فهي عبثٌ وملالة، بل عبءٌ على النفسِ ثقيل، يجذب إلى قفرٍ مريرِ الرتابة التي شبهها بودلير بنصف العدم.

-2-

إذا ما وُفقتَ في تقليبِ الوجود وسبرِ أغواره، فقد تغوص في بحارِ أسراره ومعانيه، وتنآى عن الطرقِ المطروقة والأمكنةِ العمومية...

كلُّ مفكرٍ عميق عليه أن يزهد في ذيوع الصيت ونيلِ "الشعبية"، إلا أن يأتيه ذلك من حيثُ لم يبحث أو يحتسِب، هبةً لا تُردّ ولا تُعمي الفؤادَ والبصيرةَ ولا تَستلِب.

-3-

«حينما أرقص، يقول مونتاين، فإني أرقص، وحينما أنام فإني أنام». وعليه، فأنا إذ آكل تفاحة، لا أفكر في شيء آخر غير لذةِ الأكل. فهي عندي شيءٌ ملموسٌ محسوس، وليست مفهوما. ومتى كان المفهوم يؤكل، أو متى كان مفهوم الكلب ينبح، كما قال به باروخ سبينوزا!

-4-

مفكرٌّ احترف التفاؤلَ المطلقَ ديدنا وقِبلة، حتى أدى به الجموح إلى ادعاءِ أن الناهضَ من كبواتِ التشاؤم هو من لامسَ قيعان الشّر وظلماته؛ لكن ما قولُه في أناسٍ، وهم كثرٌ، تحصلُ لهم تلكمُ الملامسة، فإما أن يثِبوا لأجَلٍ وجيز، وإما أن تنكسر أجنحتهم تحتَ وطأة المثبطاتِ والأوجاعِ المستدامة؟

-5-

حين يتسنى لي الانكباب على أخطائي وزلاتي، يصيبني دوارٌ محمومٌ أو ضيقٌ صدريٌّ مزعج. إذذاك أجتهد في غضِّ خاطري عنها، ممعنا في تسليط فكري على أشياءَ شتى، وتشتيته بين متاهاتٍ شائكة وحكايا لا رأسَ لها ولا مؤخرة.

-6-

كل يوم يمر يزيد في طمسِ أطرافي الامتدادية وحشرِها بين طيات النسيان وعتماته، وهذي لعمري من لوائح العدم ومستهلاته.

-7-

أسايرُ الحياة وأبقى على قيدها لأسبابٍ ثلاثة: حتى لا أسقطَ من عينِ محبوبتي، ولا أضربَ بعرضِ الحائط كبريائي، ولا أنجرفَ في تيارات التفاهات والجذبِ إلى الأسفل.

-8-

الإرادة تحرٍّر، لذا، وحقِّ الحق، لن أترك الحياةَ تنسحبُ مني، ولن أنشرَ همومي وقلاقلي الجوانية بالقلم أو في الرحابِ العمومية. فلقد جُبِلتُ على كره القماءة والصِّغار. وأنا مع المثل السائر: «سركَ أسيرك فإن أفشيتَه صرتَ أسيره».

-9-

كلما حاولتُ تلبيةَ واجبِ الاستغوار والتعمق إلا وواجهتني كتلُ التسطيح واللامعرفة، مستفزةً مستنفرة، فتُلجئني إلى إنقاذِ جهدي ومحصولي، ساعيا إلى الاحتماء بمساعي من هم قرنائي وأندادي.

-10-

مع الناس أو حتى مع نفسي، بات الكلام يتعبني بل أحيانا يلسعني، فكيف السبيل لجعل الصمتِ سلِسا بليغا، لا ضاجا ولا ثقيلا؟ صمتٍ ذي حصص تتلوها أخرى من صلبه وصميمه، لكنها شبيهة بمنوعاتٍ صادرةٍ عن لغة الصمِّ البكم أو مرتادي أعماق البحار؟

-11-

تنام ورأسها محشورٌ بين مخدتين، وتفسرُّ الوضع بالتوقِّي من زلزال ليليٍّ إذا حدث. فالرأسُ عندها إذا مسته الكارثة بسوء، كان مجلبة لهلاكٍ ذريعٍ أو بطئ.

-12-

أُصاب بنوع من الهلع -أنا الراوي- لـمّا أنْ أتخيلَ أو أفترضَ مصائبَ ومآسي متفاوتةَ الوقعِ والشدة، وأخطرها من حيث الفألُ السيئ، موتُ أحد شخوصي جراءَ سقوطِ طائرة بعرض البحر ويكون على متنها.

-13-

قال مؤمن جدا أو قوّلته: من دون إيمانٍ بوجود عالم آخر، أبهى وأبقى، كم من رجالٍ ونساءٍ يموتون مكلومينَ، تائهينَ وملءَ صدورهم غصصٌ وسُعار!

-14-

أمام جمهور من المؤمنين، مما قاله راهبٌ في خطبتهِ الملتهبة:

المعْرضون عن الإيمان يجهلون كم يخاطرون بمعاكسةِ الخالقِ جلَّ جلاله؛ وإلا فكيفَ لهم أن يواجهوا ويغالبوا كلَّ ما من شأنه أن يُبرئَ الملحدَ من عزوفه عن ربِّ الأرباب، كالشقاوات المتعددةِ الأصنافِ والطعنات، وكضربات الأقدار والأمراضِ العضال، وكالإعياءِ من الأنا والذات، ومن الوجودِ هنا والآن في هذه الدار...

تشكيلُ ﮔويا، كما يُقال، يصرخ بذعر الانسان المتروكِ من الله، ومعناه أن هذا التشكيليَّ الكبير كان يؤمنُ بوجودِ التاركِ الفعّال. أما أن نكونَ متروكين من الخالقِ أو متفيئينَ ظِلالَ رعايته وأنسِه، فأمرٌ يؤول إلى مقدار الحب والولاء الذي نُظهرهُ له سبحانه. وعلى المنصتِ اللبيبِ السلام.

-15-

المبدع، في شتى المجالات، هو من إذا واجهته المواد السريعةُ الطبخ والتلاشي، نأى بنفسه هاربا منها هروبه من الطواعين. ترياقُه الأنجعُ والأبهى: فكرةٌ متحننةٌ إلى بواطن المدى، وتعشّقُ الأقواتِ الروحية في الإبداعات المتحاورة عبرَ الأزمنة والفضاءات، وإلى الاشتغالِ الفرِح بطعمٍ قبليّ للمطلق ملءَ الرأسِ والحواس: هذا كلّهُ وسواه هو ما قد يحفّزُ المبدع على فعل الإجادة باطراد، وقياسِ قوةِ منتوجه بحيويةِ المفهوم وجذرية الأسلوب والأدوات.

-16-

صحيحٌ أنهُ يحصلُ لي أحيانا، كأيِّ بشر، أن أجفَّ وأعكل. لكني، رغم ذلك، أربأُ بنفسي عن اتخاذ ذلك ذريعةً لأتعطّلَ وأصيرَ من المحاصَرين والمنطفئين. ففي تلك الأحيان أتعاطى لنشاطيَ الأثيرِ الآخر: أن أعيدَ إلى الواجهة قضايا قديمة، وأطرحَ مسائلَ "كلامية" أو باطنية مُعصْلجةً عويصة، كتلك التي لا حلَّ لها إلا في انحلالها الخالصِ النافذ... وهذا أيضا وجهٌ آخر من وجوه الفنِّ اللعوبِ الثاقب.

قد يهمك ايضا

بنسالم حميش ضِمْن اللائحة القصيرة لفئة "التنمية وبناء الدولة"

بنسالم حميش يدخل اللائحة القصيرة لجائزة الشيخ زايد

casablancatoday
casablancatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بنسالم حميش يهدي شذرات فلسفية إلى المتعزَّلين والمتعزَّلات بنسالم حميش يهدي شذرات فلسفية إلى المتعزَّلين والمتعزَّلات



GMT 18:19 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

أسرار للنجاح من إيلون ماسك أغنى رجل في العالم

GMT 22:59 2021 الثلاثاء ,05 كانون الثاني / يناير

هند زيادي تعلن عن إصابتها بفيروس "كورونا"

GMT 19:53 2020 الثلاثاء ,15 كانون الأول / ديسمبر

بيل غيتس يُحذّر من وباء آخر قادم في المستقبل

GMT 15:20 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

بيل غيتس يحذر من 2022 ويتوقّع عودة "كورونا" بقوّة

GMT 10:10 2020 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

رانيا حدادين الناشطة الاردنية تزرع أرزة في جبال لبنان

GMT 18:10 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 03:29 2018 الأربعاء ,24 كانون الثاني / يناير

استبدال رائدة فضاء سمراء فجأة من بعثة "ناسا"

GMT 12:18 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

الغيطي يعترض على قيام سلفي بتحطيم تمثال في روما بلفظ مسيء

GMT 08:10 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

C3 إيركروس بديل مثالي لسيتروين C3 بيكاسو الشعبية

GMT 05:16 2017 الثلاثاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

دراسة تعلن أنّ الأطفال يرغبون في رؤية العقاب العادل

GMT 02:05 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

لفتيت يؤكد ضرورة وضع قانون لتنظيم العمل الإحساني في المغرب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca